للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محاربة ابن مهدي للغلو]

ومن محاربته للغلو أنه كان هناك قوم من الخوارج يقال لهم: الشمرية، أتباع أحد رءوس الخوارج يكنَّى: بـ أبي شمر، فسئل عبد الرحمن بن مهدي عن الشمرية، فقال: ما أخبث قولهم، يزعمون لو أن رجلاً اشترى ثوباً وفيه درهم من حرام؛ لا تقبل له صلاة، ولو أن رجلاً تزوج امرأةً في مهرها درهمٌ من حرام؛ لا تحل له، وكان وطؤها حراماً.

ويقولون: لو أن رجلاً ذبح شاةً بسكين لرجل لم يأمر به، أو كان ثمنه من حرام؛ كانت ميتة، وما رأيت قولاً أخبث من قولهم، فنسأل الله تعالى السلامة والعافية.

وكان عبد الرحمن بن مهدي ضد أهل الرأي، لأنه من أهل الأثر، وأهل الرأي كانوا لا يعتمدون على الآثار، والآثار مهمة جداً؛ فهي أقوال الصحابة، والتابعين؛ وهم أفقه الأمة، فكانوا يُعْمِلون القياس، أهل الأثر كـ عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله يرون كيف يُعْمَل القياس الآن وعندنا نصوص، لكن أولئك قوم أعجبوا بعقلياتهم، فانتهوا بذلك عن الأثر، وجلسوا يفرعون المسائل ويقيسون، وأهملوا الأخذ بالآثار، ولا شك أن الناس تفاوتوا في هذا، فمنهم من كان يأخذ بقليل من الرأي مع كثير من الأثر، ومنهم من كان يأخذ بكثير من الرأي مع قليل من الأثر، ومن الذين كان اهتمامهم بالرأي أكثر من اهتمامهم بالأثر: أبو حنيفة رحمه الله، وليس هذا نقيصة في الرجل؛ لكن هذا هو الواقع، لأن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن جَمَّاعاً للأحاديث مشتغلاً بالرحلة والجمع، لكنه كان صاحب ذهن وقاد، وكان أحمد رحمه الله صاحب حديث، والأصوب هو الاعتماد على أقوال الصحابة.

ولذلك كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله لا يعجبه اتجاه أبي حنيفة مطلقاً في قضية اتباع الرأي؛ لأن الآثار موجودة، وكان يخشى أن تفتح باباً لا يُسَد في تقديم الرأي على الأثر في النهاية، أو إهمال الآثار، والأخذ بهذه الأَقْيِسَة والأشياء العقلية، ولذلك قال عبد الرحمن بن عمر: شهدت عبد الرحمن بن مهدي وقد أراد أن يشتري وصيفةً له من رجل من أهل بغداد، فلما قام عنه، أُخْبِر أنه وضع كتباً من الرأي وابتدع ذلك، فجعل يقول: نعوذ بالله من شره، وكان من قبل إذا أتاه قربه وأدناه، ولكنه لما سمع عنه أنه يكتب في الرأي، ويبتعد عن الأثر، فلما جاءه، رأيته دخل وعبد الرحمن مريض، فسلم، فلم يرد عليه فقعد، فقال له عبد الرحمن: يا هذا، ما شيء بلغني عنك؟ إنك ابتدعت كتباً، أو وضعت كتباً من الرأي، فأراد الرجل الآخر أن يتقرب إليه بسوء رأيه في أبي حنيفة.

فقال: يا أبا سعيد! إنَّما وضعت كتباً رداً على أبي حنيفة، أي: الرجل الذي لا يعجبك منهجه أنت، أنا وضعت كتباً في الرد عليه.

فقال له: ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين؟! فقال: لا، أرد الرأي بالرأي.

فقال: إنما ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين، فأما ما قلتَ فرد الباطل بالباطل، اخرج من داري.

فالرجل أراد أن يدافع عن نفسه، فقال له: مُحَرَّمٌ عليك أن تتكلم أو تتمكن في داري.

فقام وخرج.

تنبيه: قال الكوثري، مجنون أبي حنيفة عن عبد الرحمن بن مهدي: كان زلق اللسان، ليس عنده اتزان، لا يعرف أبا حنيفة، سيء الصلاة، فبعد ذلك كونهم يقرءون بعض الكتب، ينتبهون من التعليقات؛ لأن بعض التعليقات ربما تكون سُمَّاً، كما علق الكوثري على هذا، واتهم عبد الرحمن بن مهدي بأنه يسيء الصلاة.

وقيل لـ عبد الرحمن بن مهدي: إن فلاناً قد صنف كتاباً في السنة رداً على فلان.

فقال عبد الرحمن: رداً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: لا، بكلام.

قال: رد باطلاً بباطل، ما فعل شيئاً.