للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

توضيح وظيفة رسول الله في قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)

إنه عليه الصلاة والسلام قد جاء ليأخذ بأيدي المسلمين إلى العروة الوثقى، ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم به مستمسكون، هذا هو المفروض أن يكون: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).

مات عليه السلام وذهب بشخصه وبقيت دعوته حية، من الذي يستمسك بها؟ ومن الذي يعضُّ عليها بالنواجذ؟ أنتم -أيها المسلمون- تأملوا في أنفسكم: لقد ذهب رسولكم صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فمن الذي بقي بعده مستمسكاً بحبل الله عز وجل، وبالعروة الوثقى؟ إن الدعوة إلى الله أقدم من الداعية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:١٤٤] خلوا من قبله يحملون الدعوة الضاربة في جذور الزمن، وهي أكبر من الداعية، الدعاة يجيئون ويذهبون، وتبقى الدعوة إلى الله على مر الأزمان والقرون.

إذاً لابد من توضيح دور الشخصيات بالضبط في هذا الدين، أن تعمل للدين هذا فرضٌ واجبٌ، أن تكون الشخصيات قدوةً حيةً تحرك نفوس المسلمين، هذا أمرٌ مهمٌ، وأن تكون مشعلاً ينير للناس ظلمات الجاهلية؛ هذا أمرٌ مطلوب، ولكن أن يكونوا هم الدين، كلا.

إن هذا أمرٌ لن يتم مطلقاً؛ لأنهم سيذهبون.

مشكلة كثيرٍ من المسلمين اليوم (عقدة الشخصانية) أنهم يتعلقون بالأشخاص على حساب المنهج، وهذا التعلق مذمومٌ لأسباب كثيرة: فمنها: لو أن هذا الشخص ضل، أو انحرف، أو ارتد عن دين الله، أو أخطأ كما هو متوقعٌ -لأن البشر غير معصومين- فإذاً ما الذي سيحصل لو كان التقليد الأعمى هو الذي قد استقر في النفوس؟ فإن (عقدة الشخصانية) -التعلق بالأشخاص- قد يصل إلى درجة عبادتهم من دون الله، فيتابعون على تحليل الحرام وتحريم الحلال، إن تمجيد الأشخاص في النفوس عقدةٌ مذهلةٌ تصرف كثيراً من المسلمين عن الحق، ولو أن هذا القدوة، أو هذا الشخص قد ابتعد في سفرٍ، أو موتٍ، أو ابتعد عنه، ما هي النتيجة؟ إذاً أيها الإخوة: لا بد أن نقدر الأمور بقدرها الشرعي، ونضبطها بالميزان الإلهي؛ ألا نغلو في الأشخاص كما نحفظ لهم حقوقهم، إن الذين استقاموا على الشريعة لهم مكانة عظيمة في نفوسنا، ولكن تلك المكانة لا تحملنا على ترك هجر الحق وتركه لأجلهم، إن الحق عندنا أغلى من الرجال، إن الحق أحق أن يتبع.

لقد استغلت حادثة معركة أحد لإعداد الجماعة المسلمة لتلقي الصدمة الكبرى حين تقع، والصدمة الكبرى هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم أنها ستقع وبأي وقت ستكون، فبين القرآن أن الصلة بالله لا بغيره، وأن هؤلاء محاسبون أمام الله لا أمام غيره.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد " ومنها -أي: من الغايات في هذه الغزوة- أن وقعة أحد كانت مقدمةً وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حيٌ لا يموت، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ".

ا.

هـ ولذلك لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبضت روحه، يقول الراوي: فتشهد أبو بكر فمال إليه الناس، فقال: [أما بعد: فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيٌ لا يموت، قال الله عز وجل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:١٤٤] قال: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما أسمعُ بشراً من الناس إلا يتلوها] رواه البخاري.