للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ابتلاء الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه]

لما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).

وقد ابتلى الله أيوباً بما هو مشهور معروف، وابتلى يعقوب بفقد ولديه، وشدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله في كتابه: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤].

وابتلى محمداً صلى الله عليه وسلم فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشئوا عليه تبعاً لآبائهم، ويصارحهم بذلك سراً وجهاراً، وليلاً ونهاراً، ويدور على نواديهم ومجتمعاتهم، استمر على ذلك ثلاث عشرة سنة وهم يؤذونه أشد الأذى، مع أنه كان قد عاش فيهم من قبل أربعين سنة لم يرد أنه أوذي فيها.

لقد كان من قبيلة شريفة، ونسبٍ محترمٍ موقر، في بيتٍ شريفٍ، نشأ على أخلاقٍ احترمه لأجلها الناس، ووقروه، ولقبوه بالصادق الأمين، وكان في غاية الحياء وعزة النفس، الذي يكون هذا حاله، واشتد عليه أن يؤذى ولو بكلمة، وأن يقال عنه: ساحر، أو كذاب، أو مجنون، أو به جنة، أو شاعر معلَّم علَّمه غيره.

يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى ويشق عليه غاية المشقة الإقدام على ما يعرضه إلى الأذى، لكنه مع ذلك أقدم مع ما لقيه من الأذى، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وذاك يبصق في وجهه، وهذا يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى الجزور وأمعاءه على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه، وأبو لهب عمه يتبعه يؤذيه ويحذر الناس منه في المجالس، وهو ذاهب يدعو في مواسم الحج يقول: كذاب مجنون لا تصدقوه، وهؤلاء يغرون به السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحاصرونه وعشيرته مدةً طويلةٍ في شعبٍ ليموتوا، وهؤلاء أيضاً يعذبون أتباعه، فيضجعونهم على الرمال في شدة الرمضاء، ويمنعونهم الماء.

منهم: من ألقي على أسياخ الحديد لم يطفئها إلا شحم ظهره لما سال عليها، ومنهم: امرأة عذبوها لترجع عن دينها، فلما يئسوا منها طعنها أحدهم بالحربة في مكان عفتها فقتلها، كل ذلك لا لشيءٍ إلا أنهم يدعون إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليخرجوا هؤلاء الذين يعذبونهم من الظلمات إلى النور، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن الباطل إلى الحق، ومن عذاب الله إلى نعيمه، ومع ذلك كان هذا هو ما لاقوه.

ابتلى الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم بأن قبض أبويه صغيراً، ثم جده، ثم عمه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه وتخفف عنه، ولم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وسلم، فتدبر -يا عبد الله- كل هذا وانظر بم تخرج، وأي شيءٍ تستنتج؟ نخرج في أن ما نتنافس عليه من نعيم الدنيا، ونتهالك فيه ليس بشيءٍ إذا ما قورن برضوان الله والنعيم الدائم في جواره؛ لأن معنى ذلك أنه لما حرم الله أناساً من الدنيا وابتلاهم فيها وهم أولياؤه وأصفياؤه، يعني: أن هذا الابتلاء ليس بشيء بجانب ما أعد لهم في الآخرة.

ونخرج أيضاً أن ما نفر منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس بشيء بجانب سخط الله وعذابه في الآخرة، وأن الفقر والدَّين والمرض والوجع والألم، وابتلاء الناس وإيذاءهم ليس بشيء بجانب عذاب الله في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة واحدةً، ثم يقال له: يابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب) غمسة واحدة في النار أنسته كل نعيمٍ في الدنيا مر عليه، وكل حلاوة ذاقها (ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا ربي ما مر بي بؤس قط ولا رأيتُ شدةً قط) إن غمسة واحدة في النعيم قد أنسته كل ما مر به في سنين حياته في الدنيا من أنواع البلاء.