للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الانشغال بالكتابة عن الحفظ والتدبر]

وفي المقابل من الأشياء المهمة: الحذر أن تشغلك الكتابة عن الحفظ والتدبر، قال ابن الجوزي رحمه الله: تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود، وهو: حرصهم على الكتابة خصوصاً المحدِّثين، فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا أو يفهموا، فيذهب العمر وقد عرُوا عن العلم إلا اليسير، فمن وُفِّق جعل معظم الزمان مصروفاً في الإعادة والحفظ، وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ فيحصل له المراد.

وهذه مسألة مهمة.

العلم الأساس، ما هو العلم؟ هو المحفوظ في الصدور، فإذا صرف الإنسان وقته للكتابة، هناك بعض الشباب مثلاً يجيدون كتابة الأبحاث، فيكتبون أبحاثاً وأشياء كثيرة وتحقيقات؛ لكنهم لا يصرفون وقتاً في الإعادة والتكرار والحفظ، مع أن هذا هو العلم في الأصل، أصل العلم هو: ما وقر في النفس.

فهؤلاء عندهم أبحاث كثيرة جداً؛ لكنك لو جئت سألته عن مسألة؟ يقول: لحظة أبحث على أوراقي الأوراق غير موجودة أوراقي ليست مفهرسة ضاعت أوراقي، وإن سألته في الشارع أو في مكان ليس عنده أوراقه فيقف أمامك مبهوتاً مفلساً، ليس عنده شيء.

ولذلك لا بد أن يكون أكثر الوقت للحفظ والتكرار، ووقت آخر لتقييد الفوائد والشوارد، وكتابة الشروح؛ لأنك إذا لم تكتبها ربما تضيع منك فما هو الحل؟ أن تكتبها، وكذلك لو قلنا لك: اكتب دائماً، اعمل بحوثاً، واكتب حواشٍ، وما قرأت هذه الحواشي، ولا قرأت المتن ولا شرحه ولا الأصل ولا التعليق عليه، فكيف يكون هذا طلب علم؟! لا يكون طلباً.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: ولما كانت القوة تَمَل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين، فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة، وبين راحة البدن وأخذ لَحْظة، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء.

قال: والنفس تهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخفَ عليها، فلو سألتكم سؤالاً، فقلت: هل الأصعب على النفس التكرار والحفظ أو الكتابة والتدوين؟

الجواب

التكرار والحفظ؛ لأنه يحتاج إلى مجهود أكبر، ولأنه يحصل فيه ملل، أما الكتابة فأنت تنتقل من شيء إلى شيء، ومن مسألة إلى أخرى، وتدوِّن، وكذا الحفظ فأنت تحتاج أن تقرأ العبارة عشر أو عشرين مرة حتى تحفظها، وهذا يوجِد مللاًَ، ولذلك يجب على الإنسان أن يقاوم نفسه، ولا ينجرف معها فيما تتجه إليه.

وقال أيضاً رحمه الله: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار، وخصوصاً تكرار ما ليس له نفس في تكراره وحفظه، وكذلك حفظ مسائل الفقه بخلاف الشعر والسجع، فإن للنفس لذة في إعادته.

لكن ينبغي للعاقل أن يجعل جُلَّ زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهم استقراراً لا يزول، وسيندم من لم يحفظ وقت الحاجة إلى النظر والفتوى، وينبغي أن يُحْكِم الحفظ، ويكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ.

إذاً: صرف الوقت الأكثر للحفظ، وحفظ بعض الأشعار والأدبيات جيدة من باب الترويح على النفس؛ لكن لا تصبح هي المقصود وهي الهم الأكبر.