للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عقد قران بين الأثر والنظر]

ومن أساسيات المنهج في الطلب وخصوصاً التفقه في الدين: الجمع بين الأثر والنظر، وقد قامت عداوة مفتعلة بين أهل الفقه وأهل الحديث، وطار بعض شررها، وتأثر منه كثير من الناس، ولكن العاقل الذي ينظر إلى العلماء المحققين ماذا قالوا في المسألة في قضية أهل الحديث وأهل الفقه، أو أهل النظر وأهل الأثر أو أهل الرأي وأهل الحديث؟ قيل: إن في الحجاز اشتهر مذهب أهل الحديث، لكثرة مذهب أهل الحديث؛ لأن الأحاديث كثيرة، والنصوص متوافرة، والعلماء موجودون، الذين سمعوا هذه النصوص ودرَّسوها، بينما كانت في العراق مثلاً: تشتهر مدرسة أهل الرأي؛ لأن الحديث فيها قليل، وطلاب الحديث فيها قليل، هذا مر في فترة من الفترات، كان هكذا.

فالآن بالنسبة للاتجاه في الحديث والفقه، أو قضية التفقه كيف تكون؟! الصواب: أن تكون جمعاً بين الأثر والنظر، قال الخطابي -رحمه الله- في كلام عظيم متين في مقدمة كتابه معالم السنن شرح سنن أبي داود، قال: رأيت أهل العلم في زماننا قد صاروا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر.

وأصحاب فقه ونظر.

وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البنية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخَرَاب.

ووجدنا هذين الفريقين -على ما بينهما من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهما إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهما إلى صاحبة- إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق في لزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.

فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث: فإن الأكثرين منهم إنما وَكْدُهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مكذوب، لا يراعون المتون ولا يفهمون المعاني.

وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.

-وفي الجانب المقابل، الذين يقولون: يزيد فقهاً فقط ولا يزيد نصوصاً وأدلة، وإنما ننظر ونرى في الأمر، قال: وأما أهل الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر: فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئة، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف، والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتُهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم -يقولون: هذا حديث مشهور في كتبنا، في كتب الفقهاء، حسناً: انظر، قد يكون ضعيفاً لا يصح الاحتجاج به- من غير ثبت فيه، أو يقين علم به، فكان ذلك ضِلَّة من الرأي، وغبناً فيه.

ثم قال: وهؤلاء لا يقبلون من أقوال الأئمة أبي حنيفة إلا من طريق أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ولا يقبلون قول مالك إلا من طريق ابن القاسم والأشهل، ولا يقبلون قول الشافعي إلا من طريق المزني والربيع.

حسناً: إذا كنتم لا تقبلون كلام أئمتكم إلا من خلال التلاميذ الموثوقين، فالأحرى ألا تقبلوا الكلام الذي ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا من طريق الثقات المعروفين.

فهذا خلاصة الجمع بين الأثر والنظر بين الفقه والحديث، الفقه يجب أن يكون مختلطاً بالحديث.

قال الترمذي: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا كان يعرف الحديث ويكون معه فقه أحب إلي من حفظ الحديث لا يكون معه فقه.

وقال سفيان بن عيينة: "يا أصحاب الحديث! تعلموا معاني الحديث، فإني تعلمت معاني الحديث ثلاثين سنة.

وهؤلاء الذين يعتمدون على الأحاديث دون الفقه، ويجمعون الطرق ويُضرِبُون عن معرفة الواجبات، حتى أن أحدهم يشتغل عن أركان الصلاة، فلا يدري ما هي؟ وقد يستحيي من رد الفتوى، يجمِّع أحاديث ويحفظ دون فقه، فيفتي بما لا يحسن ذكره.

حتى أن امرأة سألت أحد هؤلاء الذين يجمعون الحديث فقط دون الفقه وهو في مجلس مع أناس كثيرين، قالت: إني حلفتُ بصدقة إزاري فماذا أفعل؟ فقال: بكم اشتريتيه؟ قالت: باثنين وعشرين درهماً، فقال: صومي اثنين وعشرين يوماً، فلما ذهبت جعل يقول: آه! غلطنا والله، أمرناها بكفارة الظهار، وكفارة الظهار صيام كم يوم؟ ستين يوماً وهذا أول ما قال: بكم اشتريتيه؟ قالت: باثنين وعشرين درهماً، قال: الحل بدل كفارة الحلف هذا: صومي اثنين وعشرين يوماً، ثم قال: آه! غلطنا، أعطيناها كفارة الظهار.

إذاً: مثل هذا كيف يصلح أن يعلِّم الناس؟! الاشتغال بالنصوص فقط من غير معرفة المعاني خطأ، ولذلك قلنا: إن بعض الشباب يخطئون عندما يتفقهون بـ صحيح الجامع، ويكون علمهم من كتاب، مثل صحيح الجامع كتاب أحاديث، صحيح أنها أحاديث مخدومة ومخرجة، لكن هل موجود فيها الشروح، قد يكون الحديث منسوخاً، قد يكون مخصوصاً، فإذاً هذه الطريقة لا تصلح، والانشغال فقط بالنسخ ومعرفة الصحيح من الضعيف، والجرح والتعديل، واتصال السند، وجمع الطرق، ثم لا تعرف معنى الحديث، هذا عيب كبير.

زوامل الأخبار لا علم عندهم بمُثقلها إلا كعلم الأباعدِ

لعَمْرُك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح في الغرائر