للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف أهل السنة من فتنة القول بخلق القرآن]

أيضاً من النقاشات العظيمة والجدالات ما وقع في قضية خلق القرآن: فقد خرج أحمد بن أبي دؤاد وتقرب إلى السلطان، والمبتدعة سلكوا مسلكاً خطيراً جداً لما رأوا أن بضاعتهم لا تروج، وأهل السنة يردون عليهم وعلماء المسلمين يردون عليهم، عرفوا أنه لا قيامة لهم، فقالوا: نتزلف للسلاطين ونقنع السلطان بالبدعة ونستخدم قوة السلطان في حمل الناس على البدع، فهكذا تسلل ابن أبي دؤاد إلى المأمون، وصار وزيراً عنده وأقنعه بالبدعة، واضطهد المأمون الناس على خلق القرآن، استمر مسلسل الاضطهاد في عهد المأمون ومن بعده ومن بعده، والإمام أحمد رحمه الله ثابت ثبات الجبال، والأمة تقتدي به وتعرف شيخها وإمامها وقدوتها، وتنتظر ماذا يقول أحمد ليكتب.

واستمر مسلسل المحنة، وكان الإمام أحمد رحمه الله معذباً مضيقاً عليه، لا يؤذن له بحضور صلاة الجمعة، حتى مات المأمون، وتولى بعده المعتصم ومات، وتولى بعده الواثق، وفي آخر أيام الواثق حدثت حادثة سببت تغيراً في منهج الواثق تجاه هذه البدعة؛ وذلك أن رجلاً قد أتي به مقيداً بالأصفاد يرفض القول بخلق القرآن، وهو شيخ جليل مهيب في القيود دخل فسلم فما رد عليه، قال: يا أمير المؤمنين! ما استعملت معي أدب الله عز وجل ولا أدب رسوله، قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:٨٦] فقال: وعليك السلام، مُر بقيودي تحل أنا محبوس مقيد، أصلي في الحبس بتيمم فقد منعت من الماء، فحلوا قيوده.

وبعد أن صلى أقبل على ابن أبي دؤاد يسأله، ويقول له: خبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيءٌ دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة دعوا إلى القول بخلق القرآن؛ ابن أبي دؤاد لا يمكن أن يكذب فيها، لأنه لو قال: دعا، فسيقال له: هات الحديث الذي يدل على أنهم دعوا فيه إلى القول بخلق القرآن، قال: لا -اضطر أن يقول: لا- قال: أعلمه أم جهله؟ لو قال: علمه، لكانت مشكلة، ولو قال: جهله، فذاك أشد إشكالاً، فسكت.

فقال: شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وأنت تدعو الناس إليه وتحملهم عليه بالقوة؟ إذا لم يكن علمه رسول الله وعلمته أنت، فهذه مصيبة، فهل أنت أعلم بأمر الدين من النبي عليه الصلاة والسلام، لأنك تقول يا بن أبي دؤاد: إن خلق القرآن مسألة دينية، فمعناها أن هناك شيئاً من الدين ما علمه رسول الله، وإذا قلت لي: علمه فكيف علمه وسكت عن تبليغه، والله أخذ العهد على نبيه أن يبين للناس، فمعنى ذلك أنك تتهم نبيك أنه ما بلغ وكتم الوحي.

وبعد ذلك النقاش اهتزت ثقة الواثق بتلك العقيدة، وجعل يردد: لا خير في شيء ما دعا الناس إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وخفت المحنة في آخر زمن الواثق حتى جاء المتوكل وأزال هذه الفتنة.