للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترجمة السفاريني ونبذة عن حياته]

أما بالنسبة لهذا العلامة فإنه سمي بـ السفاريني نسبة إلى سفارين وهي من أعمال بلدة نابلس في فلسطين فك الله أسرها من أيدي اليهود، فبلدة السفاريني قريبة من نابلس التي بأيدي اليهود اليوم، وكان الوقت الذي عاش فيه السفاريني رحمه الله في القرن الثاني عشر، فهو من العلماء المتأخرين نسبياً في بلاد الشام من عام (١١١٤هـ) إلى عام (١١٨٨هـ) وكان العثمانيون يحكمون في تلك الفترة بلاد الشام، ولكن كانت فترة ضعف في الخلافة العثمانية، فقد تآلبت عليها دول أوروبا، وانتزعت منها كثيراً من ممتلكاتها والبلدان التي كانت تحت حكمها، واشتغل كثيرٌ من سلاطينها في أواخر عمرها باللهو والعبث، حتى حكّم بعضهم شريعة غير شريعة الله، واستورد القوانين وأخذ بها دون القوانين الإسلامية.

فالمهم أنه صار الوضع في آخر الدولة العثمانية حال استبداد وفوضى، وخرج عليها كثير من الولاة، وتكونت دويلات مستبدة وضعيفة، وعم السلب والنهب وفقد الأمن.

يقول العلامة محمد كرد علي مؤرخ الشام متحدثاً عن حالة الشام في القرن الثاني عشر: وسكان هذا القُطر -أي: بلاد الشام - كسائر الأقطار العثمانية لا عمل لهم إلا إرضاء شهوات حكامهم، فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح؛ لأن أحداً لم يأخذ بأسبابه ولا توسل بطرقه، فصار التخلف والاستبداد وإرهاق الرعية بالضرائب والإتاوات، وعم الفقر والبؤس.

ولما عمت الإتاوات والضرائب والفقر والبؤس كان من دور الشيخ السفاريني مقاومة ذلك، فكان محارباً للظلم والطغيان، ومما يذكر من شجاعته أنه قال لأمير نابلس لما تولى بعد أبيه الأمير، وجاء أهل العلم لتهنئته وطلبوا منه إلغاء الضرائب الزائدة عن الزكاة الشرعية؛ لأن المزارعين لا يشبعون من غلة أراضيهم لكثرة الضرائب، فقال الأمير: لا أغير شيئاً مما كان عليه والدي المرحوم، فقال له الشيخ السفاريني: وما أدراك أنه مرحوم؟ أزل الضرائب والناس يدعون لك، فاستجاب له وأزال كثيراً من الضرائب، وأخذوا منه كتابة لإزالة الضرائب، ودعوا له بالتوفيق.

أما بالنسبة للحالة الدينية في ذلك الوقت فإن الجمود والانحطاط أثر بلا شك في الحالة العلمية فمثلاً: انتشار التصوف وظهور البدع والخرافات كان واضحاً في ذلك العصر، حتى قال الكاتب الأمريكي لوثرب استيوارت في كتابه: حاضر العالم الإسلامي، فيقول عن هذه الفترة: وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة للناس -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم بالحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن إلى آخر كلامه.

السفاريني رحمه الله في كتابه غذاء الألباب نقل صوراً مخزية عن الحال التي كانت في عصره، وكذلك ابن مفلح من أهل زمانهم أيضاً قال: فما بالك بعصرنا هذا الذي نحن فيه -وكان طبعاً في المائة الثانية عشرة من الهجرة- وقد انطمست معالم الدين وطفئت إلا من بقايا حفظت الدين، فصارت السنة بدعة والبدعة شرعة، والعبادة عادة والعادة عبادة، فعالمهم عاكف على شهواته، وحاكمهم متمادٍ في غفلاته، وغنيهم لا رأفة عنده ولا رحمة بالمساكين، وفقيرهم متكبر وغنيهم متجبر.

ثم حكى عن الصوفية الذين في عصره فقال: فلو رأيت جموع صوفية زماننا وقد أوقدوا النيران وأحضروا آلات المعازف كالدفوف المجلجلة والطبول والنايات والشبابات -وهي جمع شبَّابة وهو نوع من المزامير- وقاموا على أقدامهم يرقصون ويتمايلون لقضيت بأنهم فرقة من بقية أصحاب السامري، وهم على عبادة عجلهم يعكفون، أو حضرت مجمعاً وقد حضره العلماء بعمائمهم الكبار، والفراء المثمنة، والهيئات المستحسنة، ينشدون الأشعار المهيجة في وصف الخدود والنهود والقدود، وقد أرخى القوم رءوسهم ونكسوها، واستمعوا للنغمة واستأنسوها، لقلت وهم لذلك مطرقون: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

في خضم هذا الفساد الاعتقادي والابتعاد عن الكتاب والسنة، نشأ وحمل لواء الإصلاح أئمة في ذلك الوقت، منهم الشيخ محمد السفاريني رحمه الله في بلاد الشام، ولا شك أن تآليف الشيخ في العقيدة تدل على أنه كان سلفياً في الجملة، كما في كتابه: لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية في شرح قصيدة أبي داود الحائية، وكذلك كتابه: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية.

وكذلك كتابه: البحور الزاخرة في علوم الآخرة، فإنه يظهر منها في الجملة أن الرجل كان سلفي المعتقد، والعصر الذي وجد فيه كان عصر جمود وعدم ابتكار، وحتى لو كان هناك مؤلفات فكثير منها حواشٍ على مؤلفات قديمة، أو اختصارات، أو جمع، أما من جهة التأليف المبتكر الذي يدل على اجتهاد أو قوة علم وعمق فنادراً ما كنت تجده في مؤلفات ذلك الوقت، لكن كما قلنا وجد أئمة كبار مثل الشيخ محمد حياة السندي رحمه الله، ومن محدثي ذلك الزمان، وكان من شيوخ السفاريني رحمه الله.

وقال السفاريني في كتابه: شرح ثلاثيات مسند أحمد، فيقول عن الحالة العلمية في عصره: لم يبق من آثار ذهاب البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس ككان وكان، والعلم قد أفلت شموسه، وتقوضت محافله ودروسه، وربعه المأهول أمسى خالياً، وواديه المأنوس أضحى موحشاً داوياً، وغصنه الرطيب غدا ذاوياً، وبرده القشيب صار بالياً، فالعالم الآن قلت مضاربه، وضاقت مطالبه، وسدت مذاهبه، فليس له في هذا الزمان إلا التجاء إلى عالم السر والإعلان، هذا بالنسبة للحالة التي كان موجوداً فيها السفاريني رحمه الله تعالى.

أما اسمه: فهو محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني أبو العون شمس الدين، ونسبته إلى سفارين، قال مرتضى الزبيدي: وهي كجبارين أي: في النطق، قرية من قرى نابلس؛ ونابلس بضم الباء والميم كما قلنا وكما ضبطها السمعاني في كتابه: الأنساب، وهي البلدة المعروفة في جنوب شرق طولكرم بـ فلسطين على مسافة عشرين كيلو متر، وينسب إليها العالم محمد السفاريني رحمه الله.

مولده كما قلنا: سنة (١١١٤هـ)، وأسرته قيل: إنها كانت من الحجاز حيث نزح بعض أفرادها وسكنوا طولكرم ويافا، ومنهم الشيخ سعيد بن أسعد السفاريني كان إماماً في المذهب الحنبلي.

وللشيخ محمد الذي نحن بصدده ابنان من أبنائه يوسف ومصطفى، ومن أحفاده عبد الرحمن بن يوسف وعبد القادر بن مصطفى، وكانا من أهل العلم.

وأما بالنسبة لسيرته رحمه الله: فإنه كان عالماً جليلاً جميلاً صاحب سمت ووقار ومهابة واعتبار، جمع بين الإمامة والفقه، والديانة والصيانة، والصدق وحُسن السمت والخلق، والتعبد وطول الصمت عما لا يعنيه، وكان محمود السيرة نافذ الكلمة رفيع المنزلة سخي النفس، كريماً بما يملك مهاباً معظماً، وكان كثير العبادة ملازماً على قيام الليل يحث الناس عليه، وكانت مجالسه لا تخلو من فائدة، ويشغل جميع أوقاته بالإفادة والاستفادة، يطرح المسائل على الطلاب والأقران، ويدير بينهم المحاورة، وكان صادعاً بالحق لا يبالي فيه جميع أعيان البلد، وكان أمراؤها يهابونه، كان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، خيراً جواداً.

ومع حرصه على الكتب العلمية وجمعه كثيراً منها كان يقول من تواضعه: أنا فقير للكتب العلمية، وكل ما يدخل في يده من الدنيا ينفقه، وعاش مدة عمره في بلده عزيزاً موقراً محتشماً، كانت وفاته رحمه الله سنة (١١٨٨هـ)، قال الجبرتي في تاريخه؛ وتاريخ الجبرتي من التواريخ المهمة في العصور المتأخرة، وهذا التاريخ مهم وجيد، ومن نوادر الذين أرخوا تاريخاً فيه نزاهة وعدل في الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الجبرتي رحمه الله، قال الجبرتي عن الشيخ السفاريني: لا يزال يملي ويفيد ويجيز من سنة (١١٤٨هـ) إلى أن توفي يوم الاثنين الثامن من شوال من هذه السنة بـ نابلس وجهز وصلي عليه بالجامع الكبير، ودفن بالمقبرة الزراكينية وكثر الأسف عليه.

ولا شك أن هذا الرجل ما دام بلغ هذا المبلغ من العلم فلا بد أن يكون في أول أمره حريصاً عليه من السن المبكرة، فهو قد قال: وقد منّ الله علي بقراءة القرآن سنة (١١٣١هـ) فانتهى منه حفظاً واشتغل بالعلم، ورحل إلى دمشق في سنة (١١٣٣هـ) ومكث خمس سنين يأخذ عن علمائها، ورزقه الله قوة حفظ وملكة في الاستيعاب، ولذلك فقد استوعب علوماً كثيرة وأخذ عن مشايخ كبار وعلماء وأجازه غير واحد، فلما صار عمره تسع عشرة سنة كان قد فقه وأتقن مسائل المذهب يذاكر بها شيوخه، حتى قال عن شيخه عبد القادر التغلبي: ذاكرته في عدة مباحث من شرحه على الدليل؛ وهو دليل الطال