للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مكائده في غزوة بني المصطلق]

فإذاً كان مؤامرات عبد الله بن أبي تسبب الوقيعة في المسلمين والفتنة بينهم، فلقد كاد النبي عليه والصلاة والسلام وآذاه في أقرب الناس إليه زوجته عائشة، واتهم صفوان بن المعطل وإياها بفعل الفاحشة، وأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات، وبراءة صفوان رضي الله عنهما، فقد بلغ أذاه إلى أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لا يتوانى في انتهاز الفرص للوقيعة بين المسلمين، ولذلك فإن غزوة المريسيع (غزوة بني المصطلق) قد شهدت مواقف دنيئة من هذا الرجل في غاية العجب، ومن ذلك ما حصل بين رجلين مزح أحدهما مع الآخر، فحصل بينهما رفع لشعار الجاهلية، فلما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن أبي لما سمع القصة أوقد فعلوها؟ أي: المهاجرون، والله لقد كاثرونا في بلدنا، وصاروا يأكلون من خيراتنا، ونافسونا، ثم يريدون أن يطغوا علينا، فأراد أن يحيي العصبية، ويعيدها جاهلية، فقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وقال أيضاً: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، أي: امنعوا الأموال عنه وعن أصحابه، لا تعطوه زكاة ولا غيرها، فيضطر الناس للانفضاض عنه، والأعراب الذين لا يأتون للمال لا يأتون، فلما سمع بذلك عمر رضي الله عنه، قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).

سلك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المسلك إيثاراً لسلامة الدين والدعوة، وحتى لا يتحدث العرب الذين لا يعرفون القصة، وهم البعيدون عن المدينة وظروفها والأحوال والملابسات، حتى لا يقال إن محمداً قتل ابن أبي وهو قد تابعه وأظهر الإسلام، فترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله، فانبرى ابنه عبد الله، وكان رجلاً مسلماً صادقاً - عبد الله بن عبد الله بن أبي، والله يخرج الحي من الميت- فقال لأبيه: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل رغماً عنه، حبسه على باب المدينة، الحديث رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

لقد فعل ابن أبي من المؤامرات عجيباً، ومن ذلك أنه خان الله ورسوله؛ وهذا من أشنع الأمور، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:١٠٧] أي: يخونونها بالمعصية {} [النساء:١٠٧] وخان الخيانات جميعاً الصغرى إلى العظمى، إلى خيانة دولة المسلمين، وإلى التجسس لحساب العدو مع إخوانه المنافقين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:٤١].

هل تعرفون -يا أيها الأخوة- هذه الآية: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:٤١] قال أهل التفسير، وذكره ابن كثير رحمه الله: هذه الآية في المنافقين، وقال في شرحها: سماعون من أجل قوم آخرين، فكانوا يأتون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وينقلون أخباره إلى قوم وصفهم الله بقوله: لم يأتوك قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:٤١] فكان هناك كفار صرحاء لا يستطيعون الإتيان، وكان هؤلاء المنافقون يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون الأخبار، وينقلونها إلى قوم لم يأتوه: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:٤١].