للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شبهة: حب الملتزمين مع الرضا بالواقع المعاش]

من العوائق التي توجد عند بعض الناس: أنهم يرضون بالواقع السيئ الذي يعيشون فيه، لكنهم يمتدحون الملتزمين بالدين، فإذا رأى مثلاً الناس ملتزمين يقول: جزاكم الله خيراً، وكثّر الله من أمثالكم، يُغدق عليهم ألفاظاً ولا يعاديهم.

لكن يعتقد أن الالتزام فرض كفاية، وأن الدعوة إلى الله فرض كفاية، والحمد لله فهؤلاء الناس قد كفونا العملية، فجزاهم الله خيراً، وكثَّر الله من أمثالهم، فهم لم يقصروا، ونحن دعنا في حالنا الذي نحن عليه، وتمشي الأمور.

الواقع أن هؤلاء الناس يظنون أنهم من أهون المتفلتين شراً، وإذا كان قد كف عن غيره، فهذا لا يعني أنه قد كف شره عن نفسه؛ لأن النفس أمارة بالسوء، والله عز وجل عندما أهلك قريةً من القرى قال: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:١٦٥].

هذا يعني أن الله ينجي الذين ينهون عن السوء؛ لكن هذا المتفلت الذي رضي بواقعه إذا نزل العذاب؛ فإنه لن ينجو، لأن الله عز وجل لا ينجي إلا الذين ينهون عن السوء، وكذلك حديث السفينة -الذي تعرفونه- فكان فيها طابقين، أناس تحت وأناس فوق، فكان الذين في الأسفل إذا أرادوا أن يشربوا الماء مروا على من فوقهم وأخذوا من فوق، فقالوا: بدل أن نؤذي من فوقنا، لو خرقنا نحن في جانبنا خرقاً ونأخذ الماء مباشرة، ولا داعي أن نؤذي الناس الذين فوقنا (فإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً) فهذا لا يعني أن المجتمع يجب أن يكون فيه قسمين: ١ - قسم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

٢ - وقسم يسير حسب سير المجتمع.

وهنا نقطة مهمة: وهي أن أكثر أصحاب هذا القول هم من كبار السن في العادة، فهنا قد يسأل الإنسان: لماذا يكون الالتزام في الشباب أسرع وأفضل من الالتزام عند كبار السن؟

الجواب

أن الشباب بطبيعتهم عندهم روح التجديد والتجدد والسرعة في التَغَيُر والتَغْيِير، وتقبل الأفكار أكثر من كبار السن، لأن الكبير في السن قد مشى على حالة معينة، ونمط معين، واستمر عليه، فمن الصعب جداً أن نغير فكره، أما هذا الشاب الناشئ، فمن السهل أن يقبل الأفكار، ويؤمن بها، ويغير ويتغير ويدعو إليها وهكذا.

ولذلك كان أكثر المستجيبين لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم شباباً، فكان أكبر رجل منهم في مكة، تقريباً عمره تسعة وثلاثين سنة تقريباً وهو أبو بكر الصديق.

بعض الناس يقول: الالتزام كلمة كبيرة، فيأتي مثلاً على قضية اللحية، ويقول: أنا عندي منكرات، وعندي مصائب، وعندي فأنا عندما أترك هذه الأشياء أربي اللحية؛ لأني لا أحب أن أضع شيئاً ليس على مستواي، وإذا وضعت اللحية يمكن أصد عن سبيل الله، ويمكن أن يرى واقعي ويختلف مظهري، فيكون هذا من باب صرفهم عن الحق وصدهم عنه، هذا كلامٌ نسمعه من الكثيرين، هنا نتساءل: لو قال الناس كلهم هذه الكلمة، أنا ليس عندي استعداد، ولست على مستوى هذه المسألة، ماذا يحدث؟ سؤال آخر: هذا الرجل قد يؤدي الصلاة، نقول له: هل حق الصلاة في الإسلام أكبر أم حق اللحية؟ والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أكثر أم اللحية؟ إذاً فالمفروض على كلامك أنك لا تصلي؛ لأنك لست على مستوى الصلاة! انظر كيف أن الشيطان يمكن أن يتدرج مع هذا الإنسان الظالم لنفسه، فيجعله يتفلت من عرى الإسلام عروة عروة وهكذا، ثم نقول له: أما قولك بأنك إذا ربيت اللحية، وفعلت بعض الآثام سوف تصد الناس عن دين الله، فهذا غير صحيح، لأنك عندما أطلقت لحيتك والتزمت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هل أطلقتها من أجل أن تغرر بالناس أم من أجل امتثال الشرع؟ نعم! من أجل الامتثال بالشرع، فأنت هذه نيتك، فستأجر على هذه النية.

وكذلك نقول أيها الأخوة: هذه قضايا يظن كثير من الناس أنها قضايا شكلية وهامشية، وقشور، وليست من الأمور المهمة في الدين! وهذا كلام خاطئ، ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، عقد فصلاً جيداً ومهماً عن موضوع أثر الظاهر على الباطن، وقال في معرض كلامه: إن الإنسان إذا تلبس بشيء في ظاهره لا بد أن يؤثر على تصرفاته كيف؟ نضرب مثالاً: الآن نفترض رجلاً لبس لباس العسكرية -لباس الشرطي- كيف تكون تصرفاته وهو يمشي ويقعد، أي: يكون شديداً، ويمشي بشدة وقوة، وعنده حزم ولا يلعب؛ لأنه وهو يلبس ملابس العسكرية يتخيل نفسه عسكرياً، لا بد أن يكون على مستوى هذا اللباس، فيتحمس أن تكون في نفسه صفات تطابق الظاهر الذي هو عليه.

لذلك نجد كثيراً من الذين يدخلون في السلك العسكري تتغير شخصياتهم، أي: قد يكون فيه نوع من اللعب والفوضى؛ فإذا به يتحسن في هذا الجانب، يصبح عنده جدية أكثر.

إذاً: الذي يتشبه بأهل الصلاح ويتصف بصفاتهم -مثلاً- فيعفي لحيته، ويجعل ثوبه على السنة؛ هذا الرجل اتخذ هذه الصفات على ظاهره، فلا بد أن يؤثر على باطنه، ويكفيه فخراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فعندما يتشبه بسيماء أهل الصلاح وصفاتهم، ويعفي هذه السنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويلتزم غيرها من السنن والآداب والمظاهر الإسلامية، فإن هذا يؤثر على قلبه وباطنه.

وبعض الناس عندما تدعوه إلى الالتزام يقول: أنا مستعد أن ألتزم ولكن ليس الآن! أي: على فترات، سوف أعمل خطة خمسية وألتزم عليها، بناءً على هذه السنة القادمة لا أسمع الأغاني، والتي بعدها لا أنظر إلى المرأة الأجنبية، والتي بعدها لا أشاهد تمثيليات، والتي بعدها وهكذا، إلى أن أصل إلى الالتزام، وفي الأخير لا أدري هل يصل بعد الموت أو قبل الموت أو لا يصل نهائياً.

مسألة أني ألتزم على مراحل، أو ألتزم شيئاً فشيئاً وسوف أؤجل الالتزام بعد فترة من الزمن كل هذا من نزغات الشيطان ومداخله، وذلك لأمور: أولاً: ما يدريك أنك ستعيش إلى الوقت الذي ستصبح فيه ملتزماً؟ هل تضمن نفسك؟ ثانياً: هل تضمن أن تهدي نفسك بنفسك؟ أي: أنت حكمت بأنك بعد فترة خمس سنوات ستهتدي، هل فعلاً بعد خمس سنوات سوف تهتدي؟ أو ربما أن الله عز وجل يكتب عليك ألا تهتدي، فهل هداية نفسك بيدك، أنت يجب عليك أن تسلك السبيل المستقيم، فيهديك الله عز وجل بهذه الصفات، وبهذه الأعمال الصالحة.

ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة) بادر الآن لأنك لا تعلم متى تموت! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] هذا لن يحصل.

ولذلك قال العلماء في قول الله عز وجل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:١٣ - ١٤] هؤلاء المنافقون الكفرة ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم؟ أعطونا من النور الذي معكم؟ فيقول لهم المؤمنون: {بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:١٤] بالشهوات والمعاصي واللذات {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:١٤]، فقال المفسرون: {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:١٤] أي: الانتظار.

ولذلك جاء في آياتٍ عدة: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:٢٢٦] تربص أربعة أشهر أي: التأخير أربعة أشهر، وتربصتم أي: أخرتم التوبة، قال بعض السلف: أخرتم التوبة من وقتٍ إلى آخر، وأنتم جالسون تسوفون وتأخرون التوبة: {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:٣٥] {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤].

ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعل وعسى".

وهناك مثل جميل يضربه ابن القيم لهؤلاء الناس يقول: الذي يترك الشبهات والشهوات تسري في جسمه ويقول: أنا سأؤخر التوبة، هذا مثله مثل رجلٍ نبتت في داره شجرة مؤذية، وهو شاب قوي، والشجرة صغيرة، فكلما جاء يقطعها، قال: سوف أقطع في القريب، ويؤخر القطع إلى بعد ذلك، حتى مضت فترةٌ طويلة جداً، كبرت فيها الشجرة واشتدت وصارت قوية، وجذورها عميقة، وقد صار شيخاً كبيراً عاجزاً، فلما أتى ليقطعها إذا قواه تخور وتنهار، فالعملية عكسية، فكلما زادت الشهوات والشبهات بالنفس كلما ضعفت قوة التغيير إلى الصلاح وهكذا، فعلى الإنسان أن يبادر بالتوبة والتغيير والالتزام ولا يقول: سوف التزم بعد فترة ومن الذي يضمن لك أن تعيش حتى تأتي تلك الفترة.

هذه مقولة يقولها البعض: أنا لست شريراً إلى تلك الدرجة أني من جماعة كذا، أي: أنا إنسان طيب، ونيتي صادقة، والله يفرض عليّ أن أكون مطوعاً وو الخ.

أي: أنا إنسان طيب، ونيتي طيبة، لماذا تقول لي: التزم بهذه وهذه وهذه، أي: أنا لست شريراً إلى هذه الدرجة، فهذا الإنسان يجهل قضية العبادة، ويجهل: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢] يجهل أن يكون كل شيء لله، يعتقد أن هناك شيء لله، وشيء لنفسه، شيء للشهوات، ولإرضاء حظوظ النفس.