للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوة الإرادة]

ولنشرع بالشطر الأول من هذا الموضوع وهو قوة الإرادة.

أما الإرادة: فإن الإرادة الكاملة التامة هي لله سبحانه وتعالى، الذي وصف نفسه بأنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٦] لا تحدث حركة ولا سكنة في الأرض ولا في السماء إلا بإرادته ومشيئته، ولو شاء عدم وقوعها لم تقع، فهذه هي إرادته الكونية القدرية التي لا بد من وقوعها، كما قال الله عز وجل: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:٨٢]، وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:١٦] {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:٤١] {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:١١] فمشيئته سبحانه وتعالى نافذة، إرادته نافذة؛ هذه الإرادة الكونية القدرية.

والإرادة الثانية: هي الإرادة الدينية الشرعية كما قال الله تعالى فيها: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٧] ثم إن بعض الناس قد يسلكون سبيل التوبة فيتوب الله عليهم، وبعض الناس لا يسلكونها فلا يتوب الله عليهم، وقال الله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] وهذه أيضاً من الإرادة الدينية الشرعية، فلو كانت الإرادة هذه كونية لما حصل لواحد منا عسر أبداً، والخلط بين الإرادتين هو الذي يورد المهالك.

وقد ضل أناس في هذين النوعين فجعلوهما شيئاً واحداً، فصار بعض الناس يقولون: إننا مجبورون على الأفعال لا إرادة لنا، وبعض الناس يقولون: إن كل شيء نفعله فالله يريده، يعني: يحبه، فضلوا واستمروا على المعاصي والضلال، قالوا: إن الله يحب هذا واحتجوا بأنه وقع وأن الله أراده، وبعض الناس: ضلوا في الناحية الأخرى فقالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وهؤلاء الضُّلاَّل هم الذين انحرفوا في مفهوم إرادة الله سبحانه وتعالى فخلطوا بين الإرادة الشرعية وبين الإرادة الكونية، والذي يخلط بينهما -ولا شك- يضل.

فهؤلاء الذين قالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم جعلوا هناك أكثر من خالق، بل إن عدد الخالقين صار بعدد الناس الذين يفعلون الأفعال، ولا شك أن الله خلقنا وخلق أفعالنا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] وأما الذين قالوا: إن العباد ليس لهم إرادة وإنهم مقصورون ومجبورون على أفعالهم سلبوا العباد القدرة والإرادة التي أعطاهم الله إياها، بل إنهم بهذا الكلام الباطل جعلوا تعذيب الله للعاصي مثل تعذيب الطويل؛ لماذا لم يكن قصيراً، والقصير؛ لماذا لم يكن طويلاً، بل إنهم عذروا إبليس وقدموا العذر لفرعون وهامان وقارون؛ لأنهم معذورون بما فعلوه لأنهم مجبورون، وقال قائلهم في البيت المشهور:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

هذا بيت من عقيدة الجبرية، والذي قاله جبري، يقول: إن الإنسان مجبور، وأن الله سبحانه وتعالى امتحنه مع أن المخلوق لا إرادة له، بل إن بعض هؤلاء القدرية الضُّلال اجتمع نفر منهم فتذاكروا في القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:٢٤] فقال أحدهم: كان الهدهد قدرياً، أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وكل ذلك من فعل الله.

ونحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى أعطانا القدرة وأعطانا الإرادة، ولكن لا يقع إلا ما يريده الله، لم يسلبنا الله الإرادة والقدرة، بل إن العبد إذا أراد أن يفعل شيئاً فإن له الحرية في الفعل إذا أراد الله وقدر وقوع ذلك، ولا يشعر العاصي بقوة تدفعه إلى عمل الشيء وهو لا يريد ذلك أبداً، وليس العبد مجبوراً على أفعاله مطلقاً، وكم كانت هذه العقيدة الضالة سبباً في صد بعض الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وهذا مثال على ذلك: قال بعض السلف: خرجنا في سفينة وصحِبَنَا فيها قدريٌ ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله -هذا عين ما يقع اليوم من بعض الناس الفسقة إذا قلت لهم: التزموا بدين الله عودوا إلى الله اتركوا المعاصي قالوا: حتى يريد الله- قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد، فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية قال: فأنا مع الأقوى منهما.

وهذا الضلال بسبب الخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فإن الله سبحانه وتعالى أعطانا الإرادة وأراد منا أن نعبده سبحانه وهو لا يقع في ملكه إلا ما يريد: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٤٧] ومن الأدلة على أن الإنسان له إرادة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في عدد من المواضع في كتابه، كقوله عز وجل: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:١٩] {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩] {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:٧٩] {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً} [القصص:١٩] فنحن لنا إرادة ضمن إرادة الله، ولا يمكن أن نخرج عن إرادة الله، ولكن لنا إرادة، لسنا مجبورين على أفعالنا.

وبالمناسبة فإن عدداً من الذين يتكلمون عن موضوع الإرادة من أصحاب الكتابات في علم النفس المأخوذ من النظريات الغربية والمبني على عقائد القوم المنحرفين والكفرة عندهم هذه المسألة، وهي أنهم يقولون في كلامهم: إن الشخص يستطيع أن يفعل ما يريد، وأن الإنسان إذا صمم على شيء فلا بد أن يفعله، فهذا من نتيجة إلحادهم وعدم إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وبمشيئته وإرادته، وأننا تحت قهره وسلطانه ونفوذه عز وجل.

فالله سبحانه وتعالى خلق فينا الإرادة وجعل فينا غرائز وأهواء وشهوات، فالإرادة الحازمة تلبي المطالب الشرعية وترفض الإذعان لما يخالف الشريعة، وعلى مقدار إيمان الإنسان تكون قوة إرادته، وبمقدار انحرافه واتباعه لأهوائه وشهواته ونزواته وغرائزه تكون ضعف إرادته؛ لأن الشهوة تجعل ضعيف الإرادة مسوقاً إلى تحقيق مطالب النفس الأمارة بالسوء بدون أن يقاوم، وإرادة الإنسان المسلم تكبح جماح الأهواء والشهوات الثائرة وتسكنها بالكبح والصبر.

وإذا كانت الإرادة قوية محكومة بالعلم الشرعي مع العقل والحكمة التي اقتضتهما الشريعة وجاءت بهما، فإن أفعال المسلم تكون حكيمة ونافعة، وإذا كانت الإرادة ضعيفة أو غير مقرونة بالعلم والعقل والحكمة فإن التصرفات لا تكون حكيمة ولا نافعة، وضعيف الإرادة يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والتباطؤ في العمل، ويجعل غالب وقته في الهزل، ويتعطل عن العمل عند شعوره بأدنى تعب في جسمه، أو علة في نفسه، أو عند شعوره أن العمل لا يوافق هواه وهكذا.

وهؤلاء ضعفاء الإرادة متبعون لأهوائهم، ولذلك تراهم يخلدون إلى النوم الطويل القاتل للقوة والمتلف للجسم، وهؤلاء الذين لم يلتزموا بدين الله ولم يأخذوا بهذه الشريعة فقصروا وجعلوا للشيطان عليهم سبيلاً.

وبعض الناس يكون عندهم قوة إرادة لكن لا يحكمونها بحكمة الشريعة، قد تكون إرادتهم قوية جداً، لكن لسبب فقدانهم للعلم والحكمة تكون قوة إرادتهم نكبة على أنفسهم، فقد يضغط بعضهم على نفسه فيركب مركب الغلو، فيصل إلى تعذيب النفس والجسد فينهار ويتحطم، وبعضهم قد يستخدم إرادته القوية فيفرض سيطرته على مجموعة من الناس ويقودهم للإجرام، وبعضهم من قوة إرادته يغامر بنفسه وبغيره مغامرات تقودهم إلى الهلكة، وهذا من الغلو في هذا الموضوع.

وإن الإرادة التي نتكلم عنها هي إرادة وجه الله، ما نريده إرادة وجه الله سبحانه وتعالى، فإن بعض الناس في هذه الدنيا عندهم قوة إرادة لكنهم وجهوها لطلب الحياة الدنيا، فأرادوها وسعوا من أجلها، فمن أجل الدنيا يعيشون ومن أجلها يكافحون ومن أجلها يعملون في الصباح والمساء حتى يصل إلى غنى، أو شهرة، أو منصب، أو شهادة، ونحو ذلك.

وهذا حال كثير من الناس اليوم، فإن بعضهم عنده إرادة قوية لكن في أي شيء سخرها؟ لجمع الأموال، وفتح الشركات، ومتابعة الأعمال أو الدراسة، وكله في الدنيا، تجده يهلك نفسه في الدراسة الدنيوية وهو مفرِّط في أمور الشريعة وفي أمور الدين، وجَاعلٌ إرادته كلها منصبة في قضايا الدنيا، فهذا الذي قال الله عز وجل فيه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨]، يعني: قد تحصل له وقد لا تحصل، فإن بعضهم يكدحون ويكدحون وعندهم إرادات لكن لا يوفقهم الله حتى في الدنيا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:١٨ - ١٩].

فالذين لا يريدون وجه الله وليس عندهم إرادة لوجه الله، هؤلاء يكون من عقوبتهم التثبيط عن الأعمال الصالحة؛ لأنهم ما أرادوا وجهه، ولا فعلوا موجبات الإرادة، فإذا كان إنسان يريد الدين فعلاً، ويريد نصرة دين الله، والعمل له لكان قام بالأعمال، ولصار عنده من أعمال الجوارح وغيرها والتخطيط والتدبير لنصرة هذا الدين والسعي إليه، لكن لما فرط وتخلى ثبطه الله، كما قال الله سبحانه وتعالى في الذين في قلوبهم مرض: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:٤٦] لقاموا بالعمل وجهزوا أنفسهم بما يستطيعون {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:٤٦].