للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الهمة في الجهاد في سبيل الله]

أما الجهاد في سبيل الله: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام حكى لنا حال رجل مَثَّلهَ بألفاظ عجيبة تبين همة هذا الرجل العالية في الجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاشر الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعةً أو فزعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه).

هذا رجل على أهبة الاستعداد، دائماً مستعد ممسك بعنان فرسه، أي وقت سمع منادي الجهاد طار ولم يمش مشياً، بل طار على الفرس يبتغي مظان الموت، وأين يوجد القتل فيدخل في المعترك.

حديث صحيح رواه مسلم.

(وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحتمي به أصحابه).

وتمنى ألا يتخلف عن سرية قط، لكن لأجل بعض المصالح، ومع ذلك قاد عدداً كبيراً من الجيوش والسرايا، وأصحابه ساروا على منهاجه، وانظر إلى همة أنس بن النضر العالية في قتاله حتى ما بقي منه إلا ما عرفته أخته به وهي بنانه، سبعون موضعاً في جسمه ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، وحمزة في أحد قال الراوي: مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هداً ما يقوم له شيء، يقول: يا بن أم أنمار! يا مقطعة البظور! أتحاد الله ورسوله؟! فيضربه فكان كأمسٍ الذاهب.

ولعل من أعجب الأمثلة وأروع الأمثلة في تاريخنا الإسلامي لصاحب همة عالية في الجهاد، الرجل الذي مع شهرة اسمه لكن لا يعرف من أفعاله إلا القليل، إنه خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ هذا الرجل عجيب فعلاً فيما قدم لهذا الدين في الجهاد والقتال، أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد حينٍ، ولكن سخر قوته ومواهبه لله ورسوله، وقاد جيشاً من المسلمين في فتح مكة، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أرسله وبعثه بعوثاً ارتدت العرب، وكانت مهمة عظيمة ملقاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعرف كيف ينتقي سيفاً من سيوف الله، فوجهه إلى أشد الخصوم مسيلمة الكذاب وقاتلوا في ليالي اليمامة وأيامها مقاتلة شديدة حتى أظفرهم الله على المرتدين.

وبرغم قساوة وشراسة معارك الردة -التي مع الأسف ليست معروفة لكثير من الأجيال المسلمة التي ينبغي أن تدرس بعناية؛ لأن فيها أموراً كثيرة مما ينطبق في زماننا- لم يقعد خالد وإنما وجهه أبو بكر لغزو فارس، بادئاً بثغر أهل الهند والسند، وأرسل معه أناساً، فقام خالد رضي الله عنه فقسم الجيش إلى ثلاث فرق، وأعدهم عند الحفير، وراسل هرمز يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وجاء هرمز بجيشه، ونزل على الماء ونزل المسلمون على غير ماء، وكلموا خالداً فقال: حطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين، وربط الفرس بعضهم بالسلاسل، ودعا هرمز خالداً للمبارزة يريد الخديعة، حتى إنه جعل خطة بحيث إن هناك أناساً من الفرس ينقضون على خالد من الخلف أثناء المبارزة، ولكن القعقاع وهو قائد إسلامي آخر كان منتبهاً فحمل عليهم فقتل خالد هرمز، وانهزم الفرس وأرسلت الغنائم إلى أبي بكر.

ثم دخل في واقعة المذار وكان هرمز قد كتب لـ أردشير يستمده، فأمده بقائد منهم، فالتقى الجيشان مع فلول جيش هرمز في ذلك المكان، فنهض خالد لقتالهم على التعبئة، وخرج إليهم فاقتتل الجيشان وانهزم الفرس وكانت مقتلة عظيمة.

ثم وقعة الولجة التي أرسل فيها الفرس جيشاً كثيف العدد ونهض لهم خالد وخلفه من يحمي ظهره وقسم الجيش وأعد الكمائن واقتتل الجيشان واستعرت الحرب وصار الظفر للمسلمين وولى الفرس ومات قائدهم من العطش.

ثم انتقل إلى وقعة أليس -وهم جماعة من عرب الضاحية نصارى من بكر ووائل- الذين عبئوا أنفسهم للثأر وراسلوا الفرس فأمدوهم، وعلم خالد باجتماعهم فذهب إليهم وعاجلهم واقتتل الجيشان مقتلة عظيمة, ونذر خالد لئن أظفره الله بهم ليجرين نهرهم بدمائهم، وهزم الله الفرس وأسر المسلمون الكثير منهم، ثم قتلوهم حتى جرى النهر بدمهم، فسمي نهر الدم، وكان خالد يقول: ما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس، وقسم الغنائم وأرسل الخمس إلى الخليفة.

ثم واقعة أنغيسيا التي أكمل خالد بجنده إليها وقاتل أهلها وولوا تاركين كل شيء، ما إن اقترب خالد حتى هربوا وتركوا كل شيء غنيمة.

ثم توجه إلى الحيرة وخرج المرزبان بجنده وجعل خالد الجيش على سفنٍ في الفرات، ولكن الفرس عملوا مكيدة، بأن فجروا أنهاراً فرعية لتقف سفن المسلمين بأحمالهم، وفعلاً وقفت سفن المسلمين بأحمالها، لكن خالداً لم يكن ليحتار ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل، وإنما انفلت بكتيبة من المسلمين وقاتل المرزبان على حين غفلة من جيشه حتى هزمهم وهم القائمون على الأنهار الفرعية، وأجرى الماء في الفرات فرجع الماء وحملت سفن المسلمين، ودخل الحيرة وفتحها وأعمل القتل فيها، وخير قساوستها فاختاروا الجزية، فأرسل إلى أبي بكر الصديق.

ثم انتقل إلى الأنباط، وهكذا من معركة إلى أخرى، ثم إلى عين التمر وهي واقعة عجيبة، ثم إلى دومة الجندل ثم إلى الخنافس والحصيب وهي وقعة أخرى.

ثم ينتقل خالد بن الوليد من مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة الفراض التي تحالف فيها الفرس والروم ونصارى العرب في جيش واحد ضد خالد بن الوليد وجيش المسلمين، وفتحها الله.

ثم معركة اليرموك المشهورة وأنتم تعلمون ما حصل فيها، وظهرت العبقرية العجيبة لـ خالد بن الوليد حينما أراد أن يفاجئ الروم من مكان لا يحسبون له حساباً، فاختار أن ينطلق من العراق إلى الشام عبر بادية الشام الصحراء -التي تقطع الآن بسيارات بعشرين ساعة مع الراحات- أتى خالد بدليل يدل الطريق، وأمر بحمل الماء وأمر بعشرين جزوراً سماناً عظاماً فأظمأها حتى اشتد عطشها ثم أوردها الماء، حتى رويت فقطع مشافرها وعكمها حتى لا تجتر، وكان كل يوم له منزل يعمد إلى أربع من الإبل فيقطع أسنمتها ويأخذ ما في كروشها ويسقيه الخيل حتى كان المنزل الأخير، فوفقهم الله حتى عبروا ذلك المكان، وفاجأ الروم من المكان الذي لا يحتسبونه.

ولما حوصرت دمشق من أبوابها المختلفة كانت الفرقة التي فيها خالد هي التي دخلت دمشق وهو الذي قال لهم: انتظرونا فإذا سمعتمونا كبرنا فاقتحموا، فصعد هو ومن معه على الأسوار ونزلوا على الروم الحراس وقتلوهم وفتحوا الأبواب وكبروا، فدخلت جيوش المسلمين إلى دمشق، وكان بعض أهلها قد صالحوا المسلمين في الجهة الأخرى، فبعض دمشق فتح عنوة وبعضها فتح صلحاً.

وهكذا يستمر خالد بن الوليد، وفي معركة من المعارك تواجه جيش خالد مع جيش عقة بن أبي عقة النصراني العربي الذي كان يجهز الجيش، فلمح خالد ثغرةً فترك جيشه وانطلق إلى القائد المشرك الكافر فأخذه واحتضنه ورجع به أسيراً فانهزم جيشه.

وفي معركة من المعارك حاصر المسلمون حصناً، فقال بعض المسلمين لـ خالد: إن هؤلاء إذا رأوا وجهك لا يخرجون خارج الحصن، مع أننا نريد أن يخرجوا لكي نقاتلهم، فخرج خالد نهاراً وهم يرونه مبتعداً، ثم دخل ليلاً في الجيش مرة أخرى، وفي الصباح خرجوا لأنهم علموا أن خالداً خرج، فخرجوا من الحصن ليقاتلوا فصبحهم خالد بوجهه فهزموا، رضي الله تعالى عنه.

ويستمر حتى يطيع أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حين برجوعه إلى المدينة، ويكون عنده حتى وافاه الأجل رضي الله عنه.

وفي إحدى الغزوات بعدما فتح مدينة أخذ فرساناً وذهب إلى الحج -قطع مسافة إلى عرفة - مباشرة فحج ورجع فلما رآه أصحابه حليق الرأس عرفوا أنه قد حج.