للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال السلف بعد انقضاء عصر الصحابة]

ولما انقضى عصر الصحابة وجاء بعدهم السلف رحمهم الله، كيف كان حالهم؟ اسمعوا معي، قال مالك رحمه الله لما سئل عن أيوب السختياني، من كبار علماء السلف قال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، وحج حجتين وكنت أرمقه ولا أسمع منه -أي أن مالكاً في البداية ما كان يسمع من أيوب، حتى حصل موقف، ما هو الموقف؟ - أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، يبكي أيوب حتى أن مالكاً رحمه الله يرحم أيوب من شدة البكاء، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله النبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه، أخذ الحديث عنه.

وجاء في بعض الكتب أن الزهري رحمه الله كان من أهنأ الناس، أي: من ألطف الناس في العشرة وأقربهم في المودة، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه لا يعرفك ولا تعرفه، مع أنه كان من أشد الناس مودة وحسن تعامل.

وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس الموجودين في المجلس بالسكوت، وقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله حياً.

وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينحني ويتغير لونه، أي: هو يجلس فلما يذكره صلى الله عليه وسلم ينحني في جلوسه ويتغير لونه.

ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة.

وقال مالك: جاء رجل إلى ابن المسيب فسأله عن حديث وهو مضطجع، فجلس وحدثه، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعنى -أي: لا تتعب نفسك- فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع.

وكان مالك إذا حدث عن رسول الله فعل أشياء عجيبة، واسمع معي إلى هذه القصة: كان طلبة العلم إذا جاءوا لـ مالك رحمه لله يطرقون الباب، خرجت إليهم الجارية التي عند مالك، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل؟ -تريدون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تريدون مسائل فقهية، إذا صار كذا ما هو الحكم، وإذا صار كذا ما هو الحكم- فإذا قالوا: المسائل، خرج إليهم مالك مباشرة بثيابه العادية وأفتاهم، وإن قالوا: نريد الحديث، دخل مغتسله فاغتسل، وتطيب، ولبس ثياباً جدداً، وتعمم، ووضع رداءه على رأسه، وتبخر، فيخرج إليهم وعليه الخشوع، ولا يزال حتى يفرغ من حديث رسول الله، فقيل لـ مالك في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله، ولا أحدث به إلا على طهارة.

هؤلاء علماؤنا -أيها الإخوة- هكذا كانت محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المحبة تدفعهم إلى تعظيم حديثه، ومن خالف سنته عليه السلام فهو ناقص المحبة، ولكن لا يجوز لنا أن نقول لإنسان عاصٍ -هذه نقطة مهمة- أنت لا تحب الرسول مطلقاً، وليس في قلبك أي ذرة من ذرات محبة الرسول، لا، بدليل أن الرجل الذي جاء وقد شرب الخمر وهو النعيمان، وكان يضحك رسول الله، كان هذا الرجل يلف على الأسواق، فينظر الشيء الظريف والذي فيه ظرافة، فيأخذه من البائع ويأتي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله! أنا أحببت أن أهديك هذا الشيء الظريف، فالرسول صلى الله عليه وسلم يسر، فبعد قليل يأتي البائع للرسول، فيقول: يا رسول الله! أعطني ثمن هذا، فيقول النعيمان: أنا أخذته وأهديتك إياه، لكني حولته عليك أنت تدفع له.

هذا الرجل حصل معه في مرة من المرات ضعف نفس، فشرب الخمر، فأوتي به ليجلد، فسبه بعض الصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي لعنه: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) أي: إذا كان الرجل مسلماً لكن عنده معصية، فاسق، لا نقول له: أنت لا تحب الرسول بالكلية، وليس عندك ذرة من المحبة للرسول، لا، ولكن نترفق بهذا الرجل، وننصحه، ونغلظ عليه إذا احتاج الإغلاظ، لكن لا ننفي عنه المحبة نهائياً؛ لأنه إذا كان الرجل لا يحب الرسول نهائياً، فمعناه أنه قد خرج عن الإسلام إلى الكفر والعياذ بالله.

ومحبة رسول الله -أيها الإخوة- عبادة من العبادات، وما هو الشرط في كل عبادة؟ أولاً: أن تكون خالصة لوجه الله، ثانياً: أن تكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي عبادة لابد أن يكون فيها هذا، فإذا خرجت العبادة عن أحد هذين الحدين، فقد صارت مردودة على صاحبها.