للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحركة العلمية في زمن ابن المديني]

أما بالنسبة للحركة العلمية، فلا شك أنها كانت حركة علمية قوية جداً في ذلك الوقت، وصارت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، يأتي إليها طلاب العلم من كل صوب وحدب، ويقصدونها لينهلوا منها، وكان منهم بطبيعة الحال: علي بن المديني رحمه الله الذي قدم بغداد، ونَبَغ في المدن الإسلامية في ذلك الوقت من المحدِّثين عدد من أهل العلم: فمن الذين نبغوا في البصرة؟ يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وكلاهما قد توفي في سنة (١٩٨هـ) وأخذ عنهما ابن المديني رحمه الله وتخرج.

وكذلك نبغ فيها أيضاً: إسماعيل بن عُلَيَّة، وعفان بن مسلم، وأبو الوليد الطيالسي.

وفي غيرها من أمصار المسلمين كان هناك أئمة أعلام، لكن لماذا ركزنا على البصرة؟ لأن ابن المديني رحمه الله نشأ فيها.

وكان هارون الرشيد رحمه الله معروفاً بالتواضع لأهل العلم، حتى أن أبا معاوية الضرير محمد بن خازن يقول: أكلتُ عنده -عند الرشيد - يوماً ثم قمت لأغسل يديَّ، فصب الماء عليَّ وأنا لا أرى، ثم قال -أي: الخليفة-: يا أبا معاوية! أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا.

قال: يصب عليك أمير المؤمنين.

قال أبو معاوية: فدعوت له.

فقال هارون: إنما أردت تعظيم العلم.

وبعد هارون الرشيد اشتهر من الخلفاء: المأمون، وقد وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بقوله: "كانت له بصيرة بعلوم متعددة؛ فقهاً وطباً وشعراً وفرائض وكلاماً ونحواً وغريبَ حديثٍ وعلمَ النجوم".

ولكن الرجل اغتالته عقول المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وحصل أيضاً أن المأمون قد شجع حركة الترجمة في ذلك العصر من لغة اليونان وغيرها من اللغات.

ولما اتسعت الفتوحات أرسل المأمون من يشتري المصنفات والخزائن -خزائن الكتب من المدن المختلفة- وفرَّغ من يترجمها، وأُودعت في بيتٍ يسمى: "بيت الحكمة" وكان قد أسسه هارون الرشيد، فعمد المأمون على تزويده بشتى الكتب، حتى أصبح بيت الحكمة من أكبر خزائن الكتب في العصر العباسي، لكن هذه الترجمة لم تمر دون ضريبة، فقد دخل عن طريق هذه الترجمة ما دخل من الانحرافات على الجسم الإسلامي أو المجتمع الإسلامي، وهذا هو عصر علي بن المديني رحمه الله.