للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التتار واكتساحهم لبلاد المسلمين]

ويمكن أن نعلم من الأحداث ما هي الأخطاء التي وقع فيها المسلمون، والتي يجب علينا أن نتجنبها الآن! عندما نقول: نتضرع إلى الله، كيف كانت إذا نزلت المصيبة بالمسلمين، وماذا كانوا يعملون؟ في فترة من تاريخ المسلمين، تقريباً من سنة ٦١٦ هـ إلى سنة ٦٦٥هـ وما بعدها بقليل، هذه الفترة من التاريخ الإسلامي حفلت بأحداث رهيبة وعاصفة، كان فيها ثلاث أحداث مهمة: اكتساح التتار لبلاد المسلمين في الجهة الشرقية والوسطى، واكتساح النصارى لـ مصر، وشمال بلاد الشام، وفلسطين، وحدوث النار العظيمة التي خرجت بجانب المدينة المنورة، هذه حدثت في وقتٍ واحد، أي: في فترة متقاربة جداً، وكان الوضع الإسلامي في ذلك الوقت في محنة عصيبة جداً من عدوان خارجي، ومن مصائب داخلية، ومن أنواع الغلاء والتفرق والتمزق والطوفانات التي حصلت، والخراب الذي وقع في بلدان المسلمين، فكانت فترة عصيبة جداً، نحن نريد أن نلقي الضوء على هذه الفترة من خلال ما سنقرؤه من بعض أحداث التاريخ التي حدثت في تلك الآونة.

قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة: (٦١٦هـ) وفيها عبرت التتار نهر جيحون بصحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم -أنا أختصر الكلام اختصاراً- فقصد التتار بخارى، وبها عشرون ألف مقاتل، فحاصرها جنكيز خان ثلاثة أيام، فطلب منها أهله الأمان فأمنهم، ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكراً وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في دفن خندقها، وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق، ففتحوها قسراً في عشرة أيام، فقتل من كان بها ثم عاد إلى البلد، فأخذ أموال تجارها، وأحلها لجنده، فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهلهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج في البلد من النساء والأطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت، حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها، ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند، ثم من الجهة الشرقية دخل الفرنج فاحتلوا مدينة دمياط وغدروا بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها، فضج الناس وابتهلوا إلى الله.

في فلسطين في المسجد الأقصى حصل اكتساحٌ أيضاً، خاف الناس من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلاً أو نهاراً، وتركوا أموالهم وأثاثهم، وتمزقوا في البلاد كل ممزق؛ حتى قيل أنه يبيع القنطار الزيت بعشرة دراهم، والرطل النحاس بنصف درهم.

سبحان الله! التاريخ أيها الأخوة فعلاً يتشابه، الآن مرت في الأحداث أن رجلاً باع سيارته من هؤلاء الهاربين من جحيم العذاب والظلم بدنانير زهيدة، وبيع الرطل من النحاس بنصف درهم- وضج الناس وابتهلوا إلى الله في المسجد الأقصى.

ثم دخلت سنة (٦١٧هـ) وفي هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بـ جنكيز خان، ووصل إلى بلاد العراق وما حولها حتى انتهى إلى إربل وأعمالها، فملكوها في سنةٍ واحدة، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلداً إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيراً من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين، فيقاتلون بهم، ويحاصرون بهم، وإن لم ينصاعوا في القتال، إذا المسلم ما دل على الطريق قتلوه، وذكر ابن الأثير رحمه الله عن هذه الحادثة فقال: فلو قال قائلٌ إن العالم منذُ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً.

فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل والتخريب في بيت المقدس، لكن هذا كان في مكان معين، أما التتار فقد اجتاحوا أماكن عديدة، في سنة واحدة ملكوا من الأملاك ما لم يملك أحد مثلهم في نفس المدة مطلقاً.

وتأمل كيف يسلط الكفار على المسلمين، بنو إسرائيل كانوا مسلمين أهل كتاب مع موسى، فلما ابتعدوا عن الدين وانحرفوا سلط الله عليهم الكفار، بختنصر كافر فقتلهم وشردهم، والمسلمين الآن في هذا القرن الذي نتكلم عنه الآن كانوا مسلمين، لكن انحرفوا وفشت فيهم من أنواع المنكرات والفواحش أشياء كثيرة -وهذه موجودة في الكتب- فسلط الله عليهم التتار مع أن التتار كفار، لكن الله عز وجل إذا ابتعد عنه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه.

قال ابن الأثير: ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج.

وهؤلاء لم يبكوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب إذا استدبرته الريح! فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين -هؤلاء التتار- فقصدوا بلاد تركستان، ثم ما وراء بلاد النهر مثل: سمرقند وبخارى، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفةٌٍ منهم -ليس كلهم- إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلاد الجبل وما فيها من حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذربيجان، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر -هذا كله في أقل من سنة- ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحو أربعين ألفاً.

ثم ذهبوا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين، فانهزم الكرج، وتالله لا أشك أن من يجئ بعدنا -هذا ابن الأثير - إذا بَعُد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، وتترسوا بالأسارى من المسلمين في بلد جاءوا وعلى المسلمين امرأة فيقول ابن الأثير بين قوسين (ولن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) حديث صحيح، ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا أهله، ثم أنهم كانوا يقتلون في المسلمين لدرجة أن أحدهم يدخل إلى دربٍ من البلد وبه مائة رجل من المسلمين فلا يستطيع واحدٌ منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحداً بعد واحد حتى قتل الجميع، ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده، ودخلت امرأةٌ منهم في زي رجلٍ متنكرة، فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها، ثم استشعر أسيرٌ معها أنها امرأة فقتلها.

ثم ذهبوا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وحرقوها، وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهنّ ويشقون بطونهنّ عن الأجنة، ثم فتحوا بلداناً كثيرة يقتلون ويسبون ويأسرون، ويجعلون الأسرى تروساً يتقون بهم الرمي، ثم يرجعون إلى ملكهم جنكيز خان.

وكذلك فإن هؤلاء قد تكامل شرهم حتى وصلوا إلى بغداد في سنة (٦٦٥هـ) وفي بغداد لعب ابن العلقمي الخائن ونصير الدين الطوسي الدور الخياني في الاستيلاء على بغداد، ودخل التتار بغداد وقتلوا جميع من قدروا عليه، هذا بعد أن قتل خليفة المسلمين، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكن الحشوش والوسخ وكمنوا أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجرى الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوفٍ وجوع، وقد اختلف الناس في كمية من قتل بـ بغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف أي: مليون وثمانمائة ألف شخص، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف، أي: مليونين، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وأعمل السيف في أهل بغداد أربعين يوماً، وكان الرجل يُستدعى من دار الخلافة من بني العباس الخلفاء فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى المقبرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويأسرون من يختارون من بناته وجواريه، ولما انقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسبب ذلك الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير في بلاد الشام من تغير الجو وفساد الريح، واجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون.

ولما نودي بـ بغداد الأمان وأنهى جيش التتار مهمته خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير كأنهم الموتى إذا نبشوا، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذ الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْ