للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فقه الإمام علي بن المديني]

كان الإمام علي بن المديني رحمه الله ليس محدثاً فقط -مع أنه من كبار رواة الحديث- ولا نقاداً للعلل فقط، وإنما كان فقيهاً أيضاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتي بالوحي، والصحابة الكرام كانوا يفتون بأقواله عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يجدوا نصاً في الكتاب وولا في السنة اجتهدوا آراءهم، والتابعون ساروا على منوال الصحابة، يعرضون الأمور على الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، فإذا لم يجدوا اجتهدوا من عندهم.

وفي عصر الأئمة المجتهدين: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، تكونت المذاهب الفقهية، فكان بـ المدينة مدرسة، وبـ العراق مدرسة فقهية أخرى، وبـ الشام مدرسة كذلك، وكل واحدة من هذه المدارس كان لها مميزاتها وملامحها.

أما بالنسبة لـ علي بن المديني رحمه الله فلا شك أنه كان من العلماء الذين جمعوا في الحديث بين الدراية والرواية، أي: من ناحية الصحة والعلل، ومن جهة المعنى والفهم والفقه، ولذلك عندما تكلم بعض العلماء الذين يعرفون الحديث رواية ودراية، ذكروا علي بن المديني من رءوس هؤلاء، فهذا الحاكم النيسابوري في كتابه معرفة علوم الحديث، قال: "فأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصر وفي كل بلد، ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليُسْتَدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة مَن تبحَّر فيها لا يجهل فقه الحديث، إذ هو نوعٌ من أنواع هذا العلم".

ثم ذكر بعض أئمة الحديث المشهورين بالرواية والدراية، يروون الأحاديث ويفقهون معانيها ليسوا فقط نَقَلَةً، قال: منهم: - محمد بن مسلم الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، رحمهم الله تعالى جميعاً، فذكر علياً منهم.

قال الذهبي في كتابه تذكرة الحفَّاظ: لا تنظر إلى هؤلاء الحُفَّاظ النظر الشزر، ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا! حاشا وكلا، فما فيمن سميتُ أحداً -ولله الحمد- إلا وهو بصيرٌ بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا أحدٌ يبلغ رتبة أولئك في المعرفة -لأن الذهبي متأخر، في القرن الثامن- فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: مَن أحمد؟! ومَن ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة، وأبو داود؟! هؤلاء محدثون، ولا يدرون ما الفقه وما أصوله، ولا يفقهون الرأي ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا هم من فقهاء الملة -هذه كانت دعوى، ربما قالها بعضهم في عصر الذهبي، فقال الذهبي راداً على من يقول ذلك الكلام: فاسكت بحلمٍ، أو انطق بعلمٍ، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء؛ ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن، ولا أنت، وإنما يَعْرِف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل.

وإذا كان الرجل الذي هو علي بن المديني رحمه الله، قد اطلع على فقه أبي حنيفة ومالك، وروى عنه وسمع روايات كثيرة عن مالك في الفقه، وكان صديقاً للشافعي، ومبجِّلاً لـ أحمد وصاحباً له، وتتلمذ على يحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، فكيف لا يكون رجلاً فقيهاً؟! ومن الأدلة على فقهه: أن كل أصحاب مذهبٍ حاولوا أن يدَّعوه إليه.

فهذا العبَّادي الشافعي في طبقات الشافعية ذكر علي بن المديني في الطبقة الأولى من طبقات الشافعية.

وكذلك الشيرازي قال: " علي بن المديني صاحبنا، وهو شافعي".

وقال أبو يعلى الفراء الحنبلي: علي بن المديني حنبلي، صاحبنا، وهو ما وضعه في كتاب طبقات الحنابلة.

وكذلك محمد بن محمد المخلوف المالكي اعتبر علي بن المديني في الطبقة السادسة من المالكية، قال: صاحبنا.

إذاً الرجل كان فقيهاً، وحتى أن كل واحد من أصحاب المذاهب الذين ذكروا طبقات المذاهب يدَّعون أن علي بن المديني منهم، ويريدون أن يلصقوه بهم.

والحقيقة: أن الرجل فيما يظهر كان مجتهداً، ليس متقيداً بمذهب معين، عنده أحاديث وأدلة كثيرة جداً، حافظ للقرآن، وعنده فهم كبير، ولا يحتاج إلى تقليد والحمد لله؛ ولذلك كان إماماً مجتهداً.