للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل معاذ رضي الله عنه]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فموضوع الرسالة التي سنتحدث عنها هي: الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وسنمر على هذه الوصية، ثم بعد ذلك نعقبها بتلخيص قاعدة في المحبة في نحو عشرين قاعدة بمشيئة الله تعالى، مع عرض بقية النقاط.

الوصية الصغرى اسم اُشتهرت به رسالة صغيرة لـ شيخ الإسلام رحمه الله، وهي في الحقيقة شرح لحديث معاذ رضي الله عنه:) اتق الله حيثما كنت).

وهذه الوصية أوصى بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شخصاً طلب منه الوصية، فيكون الكلام عنها من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي أُمرنا به، واشتملت على موضوعات مختصرة ذكرها رحمه الله تعالى، فمنها: فضل معاذ رضي الله تعالى عنه، وقضية إتباع السيئات بالحسنات، ومسألة الحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وعموماً فإن الرسالة تدور على التقوى ومعانيها.

أما بالنسبة لهذه الرسالة فإن السبب في كتابتها؛ كان سؤالاً وجهه شخص اسمه القاسم بن يوسف بن محمد التوجيبي السبتي المغربي يقول في رسالته أو سؤاله لـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "يتفضل سيدنا الشيخ الفقيه الإمام الفاضل العالم بقية السلف وقدوة الخلف، المُبدع المفصح، أعلم من لقيت في بلاد المشرق والمغرب تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية أبقى الله علينا بركته، بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار والله تعالى يحفظه، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته".

فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه: الحمد لله رب العالمين، أما الوصية فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١]-فما هي أعظم وصية؟ تقوى الله- ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا حديث صحيح.

وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عليَّةٍ فإنه قال له: (يا معاذ والله إنني لأحبك) وكان صلى الله عليه وسلم يردفه وراءه كما جاء في الحديث الصحيح الذي يقول فيه معاذ رضي الله عنه: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ فقال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجه البخاري، ثم أخبر به معاذ رضي الله عنه عند موته تأثماً من كتم العلم.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه -أي: في معاذ -: (أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر -وفي رواية: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر - وأشدهم في دين الله عمر، وأشدهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا إن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره وهو حسن بمجموع طرقه.

وأخبر عليه الصلاة والسلام أن معاذاً رضي الله عنه يُحشر أمام العلماء برتوة، يتقدم العلماء كلهم يوم القيامة، معاذ بن جبل رضي الله عنه برمية حجر -مسافة- أمام والعلماء وراءه، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ومن فضله أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مبلغاً عنه داعياً ومفقهاً ومفتياً وحاكماً -أي قاضياً- إلى أهل اليمن، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، أنه عليه الصلاة والسلام: (بعث معاذاً إلى اليمن، قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبهه بإبراهيم الخليل، ولكن هذا قد جاء في طرق موقوفة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أي: ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن معاذ بن جبل يُشبه إبراهيم الخليل من جهة، وإبراهيم كان إمام الناس، وكان ابن مسعود يقول: [إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين] تشبيهاً له بإبراهيم.

فإذاً: معاذ موحد وإمام يأتم به الناس، وهذا هو وجه مشابهته للخليل إبراهيم عليه السلام.

وكان معاذ رضي الله عنه يجلس ويتصدر في المسجد الجامع في دمشق، وقد دخل عليه واحد من الناس فرآه براق الثنايا فتىً لم يكن كبيراً في السن عندما تصدر بالعلم الذي آتاه الله إياه.

يريد ابن تيمية أن يُوصي الشخص الذي طلب منه الوصية، وأن ينقل له وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه.

فوصاه بهذه الوصية، فعُلم أنها جامعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما وصى أعرابياً من الأعراب وإنما وصى معاذاً، ولما وصى معاذاً معناها أنه انتقى له وصية تناسب حاله، فعُلم أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير للوصية القرآنية، ووصية الله للبشرية: أن اتقوا الله.

هذه الوصية جامعة -وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ - لأن العبد عليه حقان: حق لله عز وجل، وحق لعباده، فالحق الذي عليه لله قد يُخل به أحياناً والعبد يمكن أن يخل من عدة جهات: أولاً: إما بالإخلال وذلك بترك الواجبات، أو الإخلال بفعل المحرمات، إما أن يترك واجباً أو يفعل محرماً، هذا هو الإخلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت) أي: لا تترك واجباً ولا تفعل محرماً، وهذه كلمة جامعة، وهذه هي التقوى.

ثم إنه أوصاه بها في السر والعلانية.