للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحذر من موافقة أهل الكتاب]

ثم يقول منبهاً على زمان كأنه زماننا، ولكن نحن أسوأ بزمانه بكثير بالتأكيد، يقول: (واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية) الفترة هي التي ما جاء فيها رسول، وقد جاء رسولنا على حين فترة من الرسل، أي: انقطاع من الرسل.

يقول: (فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه).

فتشبه الجاهلية بسيادة الشر وعلو الشر وباختفاء آثار دعوة الرسل، وقلة العلم، وفشو الجهل، وفشو المعاصي، فجاهليتنا تشبه الجاهلية الأولى من وجوه كثيرة.

(التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه) إذاً: هذه العناية بقضية تكفير السيئات خصوصاً عند الإنسان إذا بلغ في أزمنة الجاهلية التي نحن الآن واقعون فيها قال: (فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بأشياء، فكيف بغير هذا؟).

فلو نشأ واحد في القرون الثلاثة الأولى، أو نشأ بين أهل علم ودين فمن الممكن جداً أن يتلطخ بذنوب، فكيف إذا نشأ الشخص في أوقات جاهلية، مثل زماننا.

يقول: زمانه ومن باب أولى زماننا الذي نحن فيه الآن، حيث يتلطخ زيادة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن الناس يتلطخون بالأشياء التي يفعلها اليهود والنصارى بالذات، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) مثل ريش السهم في تواليها وانتظامها وموازاتها لبعضها حذو القذة بالقذة في تتاليها وتوازيها وتماثلها (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) من غيرهم؟ هؤلاء الذين أعني، فهذا الحديث يبين أن التشبه سيسري، فقد قال: لتتبعن، فالخطاب للمسلمين، فأثبت أن التشبه سيسري في الأمة، وأنه سيسري إلى أصحاب الدين أيضاً، كما قال غير واحد من السلف، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، مثل كتم العلم، والتلبيس، يشترون به ثمناً قليلاً، يبيع لك فتوى، أو يصدر فتوى توافق هوى شخص، فإن بعض أهل العلم سيتشبهون باليهود والنصارى.

(وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين) كما يوصل ذلك من فهم دين الإسلام، فـ الصوفية منتسبون للدين مشابهون للنصارى، وبعض المفتين وبعض الذين يحملون شهادات شرعية ودكاترة وإلى آخره، يتشبهون باليهود من جهة كتم العلم وتحريف العلم، ولوي أعناق النصوص، وبيع الفتاوى وإصدار الفتاوى حسب الأهواء، وبعض المنتسبين للدين من العبّاد والزهاد وغيرهم سيشابهون النصارى في الرهبنة والبدع والانحراف.

فالنصارى مشكلتهم البدعة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد:٢٧] وهؤلاء بعض الذين ينتسبون للدين من أصحاب بعض الطرق الصوفية، ملايين في العالم، وهم سائرون في قضية البدعة.

(وإذا كان الأمر كذلك {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ} [الزمر:٢٢] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:١٢٢] لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك).

إذاً: يقول: ألقوا نظرة على سيرة اليهود والنصارى وتمعنوا فيها، لاحظوا أحوال الجاهلية ستجدون أنفسكم أنكم قد ابتليتم بشيء من هذا، واتبعتموهم في قليل أو كثير.

فأنفع ما للخاصة والعامة لو قلنا: نحن المتدينين والملتزمين، لو قلنا نحن الخاصة، وهؤلاء العامة الذين لا ينتسبون إلى التدين، ولكن دخول التشبه في الجميع، لا يمكن استثناء أحد.

فإذا وقعت الواقعة في قضية التشبه واتباع اليهود والنصارى في أشياء (فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يُخلص النفوس من هذه الورطات) والورطات جمع ورطة، والورطة في لغة العرب: الشيء الذي لا مخلص منه، ولا مخرج منه، فإذا دخل شخص فيه لا يكاد يخرج منه، قال: (وهو إتباع السيئات الحسنات).

إذن المخرج من الورطات هو إتباع السيئات الحسنات (والحسنات هو ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات).

إلى هنا ذكرنا من مكفرات الذنوب ثلاثة: أولاً: التوبة.

ثانياً: الاستغفار.

ثالثاً: الحسنات الماحية وهي الأعمال الصالحة.

رابعاً: المصائب المقدرة، وهذه من المكفرات.

المصائب المكفرة أي: التي تكفر الذنوب، هي: كل هم وغم وألم وحزن ومرض وأذية في مال أو جسد أو غير ذلك، أو عرض إلى آخره، فالحسنات الماحية مطلوب منك أن تسعى إليها، لكن المصائب المقدرة ليست من فعلك، وهذه مسألة مهمة، فلا يقال: مرّض نفسك؛ حتى يكفر عنك سيئاتك، أو قف بالشمس؛ حتى تُصاب بضربة وتكفر عنك سيئاتك، وجوّع نفسك حتى تتألم ويكفر عنك سيئاتك، لا! المصائب المكفرة لا تكون بفعل العبد وإنما هي من قدر الله تعالى.

فلما قضى من هذا الأمر قال له: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) قال له: (وخالق الناس بخلق حسن) ونحن كنا قد تكلمنا أن الحقوق على العبد من جهتين: حقوق لله، وحقوق للخلق، حقوق لله قد جرى الكلام فيها، وحقوق العباد كيف تؤدى؟

الجواب

بهذا الشطر من الحديث وهو قوله: (وخالق الناس بخلق حسن) فما هو جِمَاع الخلق الحسن مع الناس؟ جاء في أحاديث لو جمعتها تخرج بنتائج، ومنها: أولاً: (صل من قطعك) بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وغير ذلك.

ثانياً: (وتعطي من حرمك) من التعليم والمنفعة والمال.

ثالثاً: (وتعفو عمن ظلمك) من ظلمك في دم أو مال أو عرض، وبعض هذه الأشياء واجبة وبعضها مستحبة، فهذا كله داخل في التقوى؛ لأن وصية الله لعباده بالتقوى تجمع كل ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب، وما نهى عنه تحريماً أو تنزيهاً، سواء كان حراماً أو مكروهاً، فهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد.

ولا شك أن أكثر الناس إيماناً أكملهم خلقاً، كما جاء في الحديث الصحيح: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) فجعل كمال الإيمان في كمال حُسن الخلق، والإيمان كله هو تقوى الله، فهذا إذاً ملخص الموضوع.

وأصول التقوى وفروعها كلها هي الدين، وينبوع الخير وأصله: هو إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة، لو قال: فسرها لنا بكلام آخر، نقول: التقوى هي الدين، وبكلام آخر: قال عبادة واستعانة، التي جاء قوله تعالى فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣] وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨].