للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سخاوة النفس في المال]

ثانياً: (ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليُبارك له فيه) أي يأخذ المال بطيب نفس دون حرص على المال ودون جشع فيه، ودون هلع فيه، دون جمع للمال وكنزه وعدم إنفاقه وتجميده، وبخل به وحرص عليه، وإنما يجب أن يكون معطاءً كريماً سخياً، وإن أخذ قرشاً لا يقول له وقد أودعه صندوقه: (لن ترى النور بعد الآن) وإنما يأخذه بسخاوة نفس، أي يأخذه الآن ويعطيه غداً ويسلف هذا، ويؤجل هذا، ويسامح في هذا ويصل رحماً به، ونحو ذلك بسخاوة، فلا يكون القرش عنده عزيزاً إذا دخل صندوقه لا يرى النور ولا يخرج، وإنما يأخذ المال ويضع المال وينفق ويدخل بسخاوة نفس، نفس ليست هلعة على المال، وإنما يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تقضي فيه حاجتك.

فالمال لا بد منه، فهو لازم وهو الذي جعل الله لكم قياماً، فقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:٥] دنياك لا تقوم إلا بالمال، لا تذهب ولا تجيء إلا بالمال الذي جعله الله لك قياماً، ولكن هذا المال إذا أخذته بسخاوة نفس ولم تكن جشعاً وهلعاً فيه، يكون هذا المال بالنسبة لك وتعلقك به كحمارك الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تدخله، فهل تجد الإنسان وهو يحتاج إلى الدابة للتنقل والمشاوير مثلاً، يحتاج إلى بيت الخلاء ليقضي الحاجة فيه، أليست الحاجة ماسة إلى الحمام والمرحاض، ولكن هل تجد الواحد يعانق حماره بلهف وهو عزيز عليه، ولا ينتظر اللحظة التي يدخل فيها الخلاء ويحبه جداً ولا يكاد يفارقه، لا، فالشيء الذي لا بد منه، فاتخاذه لا بد منه، لكن هل نفسه متعلقة فيه ومنشدة إليه وحريصة عليه ومنكبة عليه، تحبه حباً جماً، لا! بالعكس، فالمطلوب إذاً اتخاذ المال ولكن يكون مثل حمارك ومرحاضك، ولكن من الذي ينفذ القضية الآن، هذا الكلام سهل ولكن أين التطبيق؟! وقد مر معنا في سيرة الشيخ الشنقيطي رحمه الله أنه كان لا يميز بين الأوراق النقدية العشرة والمائة والخمسين والذي في يده للآخرين، يأخذ مصاريف البيت والباقي يتصدق به، هذا من سخاء النفس، يُبارك له فيه، ولو ما استعمل منه إلا القليل، لكن يبارك له فيه، وأما الذي يجمع الملايين بدون سخاوة نفس لا يبارك له فيها، ولا يستمتع بها، بل قد تكون نكداً عليه، وهو في قلق وهم وغم ملازم له (من أصبح والدنيا أكبر همه، شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) حديث رواه الترمذي رحمه الله تعالى وهو حديث صحيح بطرقه.

وقال بعض السلف: [أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج] فإذا بدأت بنصيبك في الآخرة، مر عليك نصيبك في الدنيا فانتظمته انتظاماً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٦ - ٥٨].

وأما إذا بدأت بالدنيا فقد لا تصل إلى عمل الآخرة، لكن إذا بدأت بعمل الآخرة، وجعلت الآخرة هي الأولوية وهي الأصل جاءتك الدنيا وهي راغمة، وإذا ركضت وراء الدنيا واجتهدت فيها وجعلتها هي الأولوية، فكيف تعمل لآخرتك، وقد قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:٧٧] هذا رقم واحد، والثاني: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] وقال: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:٢١] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:١٣٣] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦].

هذا كله في أعمال الآخرة، وفي الدنيا قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] قال: امشوا، والآخرة قال: اسعوا، إذاً الآخرة مقدمة وينبغي أن يكون العمل لها أكثر وتأتيك الدنيا.

قال: (فأما تعيينه) الآن جاء على التفصيل في قضية المكاسب، فهذه الأشياء هي الإطارات العامة لقضية كسب الرزق، وهناك الأشياء الخاصة، فلو قال مثلاً: بماذا تنصحني أيها الشيخ أن أتوجه، قال: (فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية -عقارات- أو حراثة -زراعة- أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس ولا أعلم في ذلك شيئاً عاماً، لكن إذا عَنَّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة -إن فتح لك مثلاً باب تجارة أو باب عقار أو باب زراعة- عن معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم فإن فيها من البركة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسر له أن ينفتح له الباب فلا يتكلف غيره، إلا أن يكون منه كراهة شديدة، فالباب الذي ينفتح توكل على الله واستمر فيه، إلا إذا كنت تكرهه كراهة شديدة.