للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحياة الطيبة]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فقد قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧] هذا الإيمان والعمل الصالح هو سبب الحياة الطيبة وهو سبب السعادة والسكينة والطمأنينة التي يحس بها المؤمن، ونعمة الإيمان عظيمة فهي منة من الله تعالى.

فما هو أثر الإيمان في حياة الإنسان؟ هذه مسألة ينبغي أن نقف أمامها -أيها الإخوة- وأن نتدبر فيها لنستشعر نعمة الله تعالى علينا.

ما هو الفرق بين المؤمن وبين غيره؟ ما هو الفرق بين حياة المؤمن وحياة غيره؟ ما هي ميزته على غيره؟ إن الحياة الطيبة: أن يعلم المؤمن أن الله خلقه وسخر له ما في السماوات وما في الأرض سخرها من أجله {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:٢٠] إن المؤمن يعلم بأن الله قد اصطفاه وكرمه، إن الله خلق آدم على صورته، قال العلماء: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً متكلماً سميعاً بصيراً حكيماً وهذه صفات الرب جل وعلا فإن الله خلق آدم على صورته.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " اعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه، وخلقه لنفسه وخلق له كل شيء، وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعط غيره، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له -أي: للإنسان- وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وضعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وخاطبه وكلمه منه وإليه فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات ".

يشعر المؤمن بالعزة التي سجلها الله في كتابه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:٨] ويشعر بأن الله أعطاه الكرامة التي بها يعلو ولا يُعلا، ويسود ولا يساد كما قال عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:١٤١] ويشعر المؤمن بأنه في ولاية الله البر الكريم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:١١].

يشعر المؤمن بأنه في معية الله الذي يكلؤه دوماً بعينه التي لا تنام سبحانه وتعالى، ويحرسه في كنفه الذي لا يرام ويمده بنصره الذي لا يقهر {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:١٩] {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:٤٧].

ويشعر المؤمن بأنه في حماية الله القوي القدير يذود عنه ويرد عن صدره سهام المعتدين {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:٣٨].

كل هذه المعاني وغيرها لا يشعر بها الكفار على الإطلاق، هل رأيت الكفرة في الشركة والجامعة والمصنع؟ يا عبد الله! إن لك ميزة عليهم أنك تشعر بمقتضيات الإيمان وهم لا يشعرون بشيء منها؛ فجعلك الله إنساناً عزيزاً كريماً كبير النفس لا يحني رأسه لمخلوق، ولذلك لا عجب أن ترى بلال بن رباح ذلك العبد الحبشي الأسود لما أشرب قلبه الإيمان كان يستعلي على المستكبرين فخراً، ويرفع رأسه عالياً؛ لأن الإيمان قد جعله أرفع عند الله ذكراً وأسمى مقاماً فهو ينظر إلى سيده أمية بن خلف، وإلى أبي جهل بن هشام وغيرهما من زعماء قريش وصناديد مكة نظرة البصير للأعمى، ونظرة السائر في النور إلى المتخبط في الدجى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢].

إذا رأيت الكافر أمامك فاعلم أنه أعمى وأنت بصير.

إن الإيمان يولد عزاً يفوق ما عند الكفار من ألوان النعيم.

ولذلك كان الأعرابي الأمي البدوي ربعي بن عامر رضي الله تعالى عنه الذي لف سيفه بخرقة ودخل على رستم قائد قواد الفرس وهو في هيله وهيلمانه وأبهته وسلطانه دخل غير مكترث له، ولا عابئ به، ولا بما حوله من الخدم والحراس، ولا بما يتوهج في خيمته من ألوان الذهب والفضة والحلي والحرير، وقال له تلك العبارة التي خلدها التاريخ: [نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام].

إن الإيمان أيها الإخوة: يجعل المؤمن في درجة عالية لا يصلها غيره وهي درجة العبودية لله.

ومما زادني شرفاً وعزاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا