للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كثرة الكلام لا يدل على العلم]

قال: (فيجب أن يُعتقد أنه ليس كل من كثُر بسطه للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك، وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخصٍ أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم، لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين).

ومنهم من يقول: من المتأخرين من هو أعلم من أصحاب المذاهب الأربعة، أعلم من الشافعي وأحمد ومالك، لا! لا يمكن أن يكون هذا! لكن هنا نقطة مهمة وهي: أن المسألة قد لا تكون وجدت أسبابها في عهد الصحابة والتابعين، ووجدت أسبابها في عهد الإمام أحمد مثلاً، فتكلم فيها الإمام أحمد وما وجدنا فيها كلام الصحابة لماذا؟ لأنها لم تكن في عهدهم.

مثلاً: خلق القرآن هل تجد فيه كلاماً للصحابة موسعاً؟ لا.

ولماذا تكلم الإمام أحمد ومن معه في الرد على المعتزلة؟ لأن المشكلة نشأت في عصره، فعندما تدعو الحاجة إلى الكلام والرد على أهل البدع نرد هل نقوم الآن ونتكلم في قضية الصحابة؟ نقول: إذا كان عندك الوسط سليم، والناس صدورهم سليمة، وقضايا الصحابة غير مثارة، والفتن التي بينهم غير مذكورة ومنتشرة، هل تتكلم عن الفتن التي حصلت بينهم، وتتوسع فيها، وتنشرها بين العامة؟ هذا خطأ؛ لأن الواحد يكون صدره سليماً، فيصبح غير سليم.

مثال واقعي: لو قال رجل: ظهرت أشرطة عن الفتنة بين الصحابة وسمعها وقال: والله هذا محمد بن أبي بكر الصديق إنسان مجرم سفاح وظالم وباغٍ، وهو ما كان يعرف محمد بن أبي بكر، ولم يسمع به إطلاقاً والآن لما سمع الكلام قال: هذا كذا وكذا وكذا.

كانت صدورهم سليمة، فصارت هكذا، وذلك بسبب فتح موضوع لا توجد أسبابه أو الحاجة لفتحه، لكن من أثيرت عنده القضية، كأن يجلس مع رجل من أهل الرفض أو أهل البدعة وأثار عنده أشياء كثيرة، وهذا مسكين، هذا الذي يُعطى كتاب العواصم من القواصم، أو شيء يسمعه ويفيده ويعالج ما حصل عنده في هذه النقطة.

فإذن المسألة مهمة جداً، وهي: عدم إثارة الشيء والكلام فيه إلا بعد وجود أسبابه، فلا تتكلم عن قضية خلق القرآن؛ لأنها غير مثارة، ما رأيكم نخطب خطبة ودرس وسلسلة على العامة في قضية خلق القرآن، ونورد أقوال المعتزلة ثم الرد عليها، هل هذا صحيح؟! لا.

لأن المسألة أصول ومنطلقات وثوابت، فالذي يفهم طريقة السلف لا يزيغ في الكلام ولا في توقيت طرح الكلام، وأما الذي ليس عنده علم بذلك فهو يخبط خبط عشواء، فالموضوع جذاب، وقصصي فيمشي بين الناس، وبعض المكتبات والتسجيلات تبحث عن الأرباح، والمسألة هذه لها سوق وشيقة، لكن يترتب عليها مفاسد في الدين، أنت تتكسب من وراء مفاسد على الدين؟! قال: (وقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه في قوله في الصحابة: [إنهم أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه، كثير خطباؤه].

وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه، وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم، ويقدرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك.

وهذا قيل عن الزمن الذي كان في ذلك الوقت، وإلا فقد يطرأ على بعض الناس وبعض البلدان، أشياء وتغيرات كثيرة.

ولا شك أيها الإخوة! أن الاهتمام بكلام السلف أنفع من الاهتمام بكلام الخلف، وإن كان الذين يسيرون على كلام السلف من الخلف ينبغي الاعتناء بكلامهم، فمثلاً: إذا جئت إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وغيرهما تجد أنهم يبنون كلامهم على كلام السلف، وكثير من الكلام الذي يقولونه إنما هو استشهاد بكلام السلف، فـ المغني مثلاً كثير من عباراته جمع لكلام السلف، قال عطاء وقال أيوب وقال إبراهيم النخعي وقال فلان فهذا هو علم السلف، فالكتب التي تجمع علم السلف بغض النظر عن المؤلف عاش في أي عصر، المهم الاهتمام بعلم السلف، والخلف الذين شرحوا كلام السلف، وساروا على هديهم، هذا هو المطلوب.