للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخوارج وقتال علي لهم]

هذه هي الوصية أي: أن الذكر أنفع من الخادمة، وأفضل.

علي رضي الله عنه حافظ على هذا الذكر ولم يتركه أبداً، جاء في رواية أن علياً رضي الله عنه قال: [فما تركتها بعد، فقالوا له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين] وهذا الرجل الذي قال له ذلك جاء في رواية: أنه: ابن الكواء يقول لـ علي رضي الله عنه: ولا ليلة صفين؟ فقال: [قاتلكم الله يا أهل العراق! نعم ولا ليلة صفين.

] عبد الله بن الكواء من أصحاب علي رضي الله عنه لكنه كان متعنتاً في السؤال، وقد ابتلي علي رضي الله عنه بأشخاص ما شفوا غليله ولا صبروا معه، ولا حققوا ما يريد، كان يريد أن يقر الأمر وتستقر الخلافة، ولكنهم ما شفوا غليله ولذلك قال في نهاية حياته: [اللهم مللتهم وملوني فاقبضني إليك].

لم يكن مع علي من الرجال مثلما كان مع أبي بكر وعمر، ولذلك لم يكن الأمر مستتباً له، فكان ابن الكواء نموذجاً ممن كان مع علي رضي الله عنه، وكان معه أفاضل وعلماء وصحابة ولا شك؛ لكن ابتلي -أيضاً- بأشخاص فيهم ما فيهم منهم عبد الله بن الكواء لما حدثهم علي بالقصة، قال: [فما تركت بعد فجاء عبد الله بن الكواء يقول: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين، ويحك! ما أكثر ما تعنتني لقد أدركتها من السحر].

وفي رواية: [فإني ذكرتها من آخر الليل فقلتها] وفي رواية: [إلا ليلة صفين فإني أنسيتها حتى ذكرتها من آخر الليل فقلتها] فهذا يدل على لزومه للذكر رضي الله عنه وأنه حتى ليلة صفين وهي المعركة التي جرت بين علي رضي الله عنه وأهل الشام، حتى أنهم اقتتلوا مقتلة عظيمة وأقاموا بـ صفين عدة أشهر وكانت المعركة عبارة عن وقعات كثيرة؛ لكنهم ما قاتلوا في الليل إلا مرة وهي ليلة الهرير، سميت بذلك لكثرة ما كان الفرسان يهرون فيها، وقتل من الفريقين في تلك الليلة عدة آلاف.

وقد أوشك علي رضي الله عنه على النصر حتى رفع أهل الشام المصاحف وطالبوا بتحكيم القرآن، وحدث بعد ذلك توقف المعركة، وكانت سنة سبع وثلاثين وخرج الخوارج عقب التحكيم في أول سنة ثمانية وثلاثين، وقتلهم علي رضي الله عنه في النهروان وحاول علي رضي الله أن يحسم الأمر لكنه لم يتهيأ له ذلك، ولم يكتب الله عز وجل له ذلك، وكان الخوارج هم السبب في عدم حسم الأمر حيث انقلبوا عليه، وقالوا: حكم الرجال في كتاب الله، وأرسل علي رضي الله عنه ابن عباس فناقشهم وناظرهم ورجع من الإثنا عشر ألفاً ثمانية آلاف وهؤلاء كان عندهم سرعة في الرجوع وسرعة في الرد، وهؤلاء الذين قاتلهم علي رضي الله عنه في سنة ثمانية وثلاثين للهجرة بـ النهروان كان منهم ذو الثدية الذي كان مقطوع اليد، في عضده مثل حلمة ثدي المرأة أسود، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام علياً أنه سيقاتل الخوارج وأنه سيقتلهم، وأن آيتهم ذو الثدية هذا، ولذلك فإن علياً رضي الله عنه بعد المعركة طلب البحث عن ذي الثدية فلم يوجد، فأمر بالبحث فلم يوجد، ثم حلف أنه يوجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كذب، فبحثوا عنه بين القتلى حتى وجودوه فخر علي رضي الله عنه ساجداً لله شكراً.

وكان هؤلاء قد أفسدوا في الأرض حتى أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه وعلى المسلمين يكفرون مرتكب الجريمة، حتى كفروا علياً ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة حتى أنه اجتمع ثلاثة منهم قبل عام أربعين للهجرة في موسم الحج، قالوا: ما هي سبب مشكلات المسلمين؟ فخرجوا من الاجتماع بأن سبب مشكلات المسلمين ثلاثة: علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فما هو الحل؟! قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين من شرهم، فتفرقوا في البلدان على أساس أن واحداً منهم يغتال علياً، وآخر يغتال معاوية وآخر يغتال عمرو بن العاص، فأما معاوية رضي الله عنه فقد طعن فاكتوى منها فبرأ، وعمرو لم يصل في تلك الصلاة إماماً صلى غيره فطعن غيره، وأما علي رضي الله عنه فإنه خرج عليه عبد الرحمن بن ملجم بسيف ظل يسقيه السم شهراً، فخرج عليه في الظلام واختبأ له فخرج عليه فضربه على جبهته بهذا السيف المسمم وسال الدم من جبهته على لحيته فتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه حتى يبل منها هذه) يعني: لحيه رضي الله تعالى عنه، وقتل أشقى الناس خير الناس في ذلك الوقت وهو علي رضي الله عنه، وبعد ذلك حمل علي ثم توفي فيما نحسبه شهادة له رضي الله عنه وذهب إلى ربه.

ومن ضلال الخوارج أن عبد الرحمن بن ملجم لما أخذوه فربطوه قطعوا يديه فلم يتكلم، ورجليه كذلك، فلما أرادوا أن يقطعوا لسانه كما جاء في بعض الروايات صرخ، فقالوا: مالك؟ قال: لساني أذكر به الله، وهو الذي قتل خير الناس في ذلك الوقت علياً رضي الله عنه.

فهؤلاء خرجوا على المسلمين فكفروا المسلمين، فكل من ليس معهم فهو كافر وقتلوا خير المسلمين، وذهبوا إلى أحد المسلمين وكان معتزلاً الفتنة ومعه مصحف يقرأ به، وعنده وليدة حامل، فأخذوه وأخذوا المصحف منه وقتلوه وذبحوه وأراقوا دمه في النهر، وأخذوا الوليدة وبقروا بطنها وأخذوا الجنين الذي في بطنها وقتلوه، ثم مشوا إلى بستان كتابي نصراني فأراد بعضهم أن يأخذ منه تمراً، فقال بعضهم لبعض: لا.

هؤلاء أهل كتاب أوصانا بهم النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، ولا يجوز أن تأخذه إلا بحقه، فجاءوا إلى صاحب البستان يفاوضونه، فقال: واعجبا لكم تقتلون صاحبكم المسلم ثم تأتون تفاوضونني على التمر؟ حتى هذا النصراني تعجب من صنيعهم، فهؤلاء بقية الخوارج الذين كان أحدهم قد قتل علياً رضي الله عنه، وكان علي رضي الله عنه قد قتل معظمهم وأراح المسلمين من شرهم، ولكن بقيت منهم بقية ثم بعد ذلك تفرقوا في البلدان تسعة منهم: عبد الله بن إباظ التي تنسب إليه فرقة الأباظية ويقولون: هؤلاء من مكفري مرتكب الكبيرة، وتطوروا بعد ذلك فأنكروا رؤية الله في الجنة وقالوا: إن القرآن مخلوق، وقد أخذوا من المعتزلة خلق القرآن وهكذا عندهم بدع في الدين، ولازالوا هكذا إلى الآن.

المهم أن علياً رضي الله عنه مع شدة وهول المعركة لم ينس هذا الذكر تلك الليلة مع أن المعركة تنسي كل شيء لكنه ما نسي أن يقوله وتذكر قبل الفجر وقال به، فهذا الذكر العظيم يدل على أن ذكر الله عز وجل يقوي البدن كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، فأن رسول الله لما علم فاطمة قال: إنه خيرٌ من خادم، معناها أن ذكر الله عز وجل يقوي الأبدان.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد اختار لابنته أن تبقى على حالها ولم يعطها ذاك الخادم، وإنما أعطاها بديلاً وهو ذكر الله.

وكذلك فإنه اختار لابنته ما أحب لنفسه من إيثار التحمل والصبر على الشدة والقلة، تعظيماً لأجرها، وقد كان يستطيع أن يعطيها من الذهب ما شاء، ولكنه اختار لها ما اختار لنفسه، واختار لها ما هو أكثر نفعاً لها في الآخرة، وآثر أهل الصفة لأنهم فقراء قد وهبوا أنفسهم لسماع العلم وضبط السنة على شبع بطونهم منهم: أبو هريرة رضي الله عنه من زهران يرجع نسبه إليه، هذا الذي وقف نفسه على العلم على شبع بطنه فقط، ومع ذلك كان لا يجد في كثير من الأحيان ما يشبع به بطنه، فأهل الصفة وقفوا أنفسهم للعلم والجهاد يخرجون في جيوش المسلمين لا همَّ لهم إلا العلم والجهاد، اشتروا أنفسهم من الله بالقوت، وأخذ العلماء من الحديث تقديم نفقة طلبة العلم على غيرهم، لأنه أنفق عليهم.