للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرار من الله إليه]

قال ابن القيم رحمه الله: (وتحت (من) و (إلى) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إلى الله سبحانه وتعالى يتضمن إفراده بالطلب والعبودية) كيف تهاجر وتفر من غيره إليه؟ إذا جردت الإخلاص وجردت العبودية، بحيث تكون العبودية لواحد وهو الله عز وجل، ومن تصور هذا المفهوم سهل عليه أن يفهم معنى حديث: (وأعوذ بك منك) وسهل عليه أن يفهم معنى حديث: (لا ملجأ منك إلا إليك).

وهذه الكلمات عندما يقرؤها الإمام في دعاء التراويح لا يفهمها إلا قليل من الناس، وبالنسبة لكثير منهم تكون طلاسم ما معنى (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)؟ قد يعتبرون هذه ألغازاً، لكن الحقيقة أن كل شيء في الكون تفر منه من أذى أو ظلم أو إلخ، فهو بتقدير الله ومشيئته، والله هو الذي خلقه.

وكذلك أنت تفر من عقاب الله، وتفر من أسباب سخط الله تفر إليه عائذاً به مستجيراً سائلاً أن يحميك من الوقوع في معاصيه، وأن يرزقك الطاعة والأجر والفوز بالجنة، وكل أحد إذا خفت منه هربت منه -سواء أكان حيواناً أو إنساناً- إلا الله عز وجل؛ فإنك إذا خفت منه هربت إليه أين ستذهب؟ أي إنسان مخلوق موجود هنا -مثلاً- وهو ظالم وتخشى منه، فسوف تهرب منه إلى بلدة أخرى، لترتاح منه، وتنفث بريشك، ولكن الله عز وجل إلى أين تهرب منه؟ أينما هربت فثمَّ وجه الله، وأنت في ملكه، لا يمكن أن تفر ولا تخرج، فلا مفر لك منه إلا إليه، ولا مفر من عقابه إلا إلى نعيمه، ولا مفر من معصيته إلا إلى طاعته، ولا مفر من قدرته إلا إليه سبحانه وتعالى، وكل شيء مخلوق في الوجود من الظلم الذي أنت تفر منه أو الشر؛ فهو خالقه، فأنت تفر من هذا الشيء إلى ما ينجيك، وتأخذ بالأسباب التي قدَّرها وشرعها سبحانه وتعالى.

فالمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجر ما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه، وكل واحد يهاجر من شيء إلى شيء، ويترك بلداً إلى بلد، ووظيفة إلى وظيفة، وشخصاً إلى شخص، في العلاقات وإقامة العلاقات، وما يحمله على هذه الهجرة والترك إلى ذلك الطرف الآخر، إلا أن المهاجر إليه أحب إليه من المهاجر منه، وإلا لما هاجر.

فإذا قال أحد: كيف أهجر ما نهى الله عنه؟ كيف أهجر المعاصي؟ كيف أهجر الفسوق؟ كيف أهجر قرناء السوء؟ كيف أهجر مكان الحرام؟ نقول: لا بد أن يكون الطرف الذي ستذهب إليه أحب إليك من الطرف الذي ستخرج منه.

ولذلك فالهجرة مرتبطة بالمحبة، ولما كانت الهجرة شاقة على النفس، فلا بد أن هناك شيئاً يعوض المشقة حتى تستطيع الفكاك والهرب والهجرة، فإذا لم ترجع محبة الطرف الثاني الذي ستهاجر إليه على محبتك للطرف الأول؛ فلن تحصل الهجرة، ومن هنا كانت تقوية محبة الله تعالى أمراً أساسياً في حدوث الهجرة، سواء هجرة الجسد أو هجرة القلب.

لقد كان خروج المهاجرين من مكة إلى المدينة أمراً شاقاً، حتى إنهم مرضوا في المدينة، وأصابتهم الحمى، وصار أبو بكر وبلال يأتيان بالأشعار التي فيها التلهف والحنين إلى الإذخر والجليل، وجبال مكة، والبلاد التي خرجوا منها، والجو والبيوت، ولكن ما هو الذي عوضهم عن ذلك كله؟ إنه محبتهم لله ورسوله، وللدار التي تحكم بما أنزل الله ويحكمها رسوله.