للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفكر في آيات الله والتدبر في كتابه الكريم]

قال ابن القيم: ورأس الأمر وعموده التفكر في آلاء الله، والتدبر في آيات الله، وقد تجد شخصاً جالساً فتقول: ماذا يفعل هذا؟! وإن كان ثابتاً ببدنه، لكن عقله جوال في آيات الله المسطورة والمنثورة، يتأمل فيها، وإذا كان الإنسان عنده علم بالتفسير، استطاع أن ينظر ويتفكر في آيات الله عز وجل، وصارت خواطره وفكره مستودع للاستنباطات والفهم من كتاب الله تعالى، وتراه ساكناً وهو يباري الريح {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:٨٨] وتدبر القرآن وتفهمه من أعظم الأمور.

ثم قال ابن القيم رحمه الله: إن قلت لي: اضرب لي مثلاً على التدبر في القرآن كيف يكون؟ فسأقول لك: آيات في الكتاب العزيز، إذا قرأها الشخص العادي يفهم شيئاً، وإذا تدبرها صاحب العلم يفهم شيئاً آخر، هذه الآيات هي قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:٢٨ - ٢٩].

قال: هذه الآيات لو طرحت على الشخص العادي، فسيخرج منها أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام، والمرأة لما سمعت ضربت وجهها قال: فاسمع الآن ما فيها من الأسرار: أولاً: إن الله سبحانه وتعالى قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات:٢٤] افتتحها بأداة استفهام، وهذه الأداة تدل على شيء، فإنها تنبه الشخص لما سيأتيه من العلم، وأن هذا العلم من الغيب {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:٤٩]، وكذلك تستخدم لتضخيم الشيء: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:١]، وتستخدم لما سيقصه عليه من نبأ الغيب: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:١٥] {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:٢١] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:٢٤] ولما وصفهم بأنهم مكرمون؛ عرفنا أن إبراهيم قد أكرمهم، فإذاً إبراهيم يُكرم الضيوف وهذه من مناقبه، ولو كان المقصود بالمكرمين أن الله كرمهم، فكون إبراهيم يُكرم من كرمه الله، يعتبر من مناقبه أنه كرَّم المكرمين.

{فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:٢٥] سلاماً جملة فعلية، وسلامٌ جملة اسمية، والشيء الفعلي يقتضي التجدد والحدوث، والشيء الاسمي يقتضي الثبات والاستقرار، فإذاً: سلامٌ أبلغ؛ لأنها تقتضي الثبات والاستقرار، فكانت تحيته لهم من باب قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:٨٦].

{قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:٢٥] ولم يقل: من أنتم؟ أنتم قوم منكرون، ولم يقل: أنا أنكركم، فدل ذلك على لطافة أسلوبه مع ضيفه، فإنه أخبرهم أنه ما رآهم من قبل، لكن لم يخبرهم بأسلوب فيه فجوة بينه وبينهم، ثم إنه راغ إلى أهله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:٢٦] باختفاء وسرعة، وهذا هو الروغان، حتى لا يخجّلهم، لا كما يفعله بعض الناس مع ضيوفهم، فإنه يبرز بمرأى منه، ويخرج النقود، ويستدعي الولد، ويقول: خذ اشترِ لنا كذا من السوق، وهاتِ لنا كذا، أمام الضيوف، فإنه استقبال بارد، ويتضمن تخجيلاً للضيوف، وتسبباً في سواد وجوههم، لكن إبراهيم بدون أن يستشيرهم، راغ إلى أهله {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦]، فتضمن ذلك أنه خدم ضيوفه بنفسه، ولم يُرسل عبداً ولا ولداً.

ثانياً: أنه جاءهم بحيوان تام، لينتقوا منه ما يشاءون، بعجل كامل، ثم إنه سمين وليس بهزيل، فهو يضيف الناس من نفائس ماله، فقربه إليهم، ولم يقل: تعالوا واقتربوا، وإنما قرب الطعام، وهذا أبلغ في الإكرام، ثم إنه قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:٩١] فعرض عليهم الأكل بصيغة لطيفة، ولم يقل: كلوا، ضعوا أيديكم ونحو ذلك، أو سكت، فيتحرج الضيف، هل يمد يده أو ينتظر إشارة المد؟ فقال إبراهيم: ألا تأكلون؟ وهكذا فإذا قارنت بين المعنى العام الذي يفهمه الشخص وبين هذه الدقائق التي لا يُتوصل إليها إلا بالتدبر في الآيات؛ لوجدت ما معنى التدبر في القرآن الكريم؟!