للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رابع عشر: الاهتمام باللغة والبلاغة والبيان والبديع]

قيل لـ بشر بن مالك: ما البلاغة؟ قال: التقرب من المعنى، والتباعد عن حشو الكلام، ودلالة بقليل على كثير.

وقيل البلاغة ليست كثرة الكلام، ولا خفة اللسان، ولكن إصابة المعنى، وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز موضع الفرصة.

وقال خالد بن صفوان: خير الكلام ما غرست معانيه، وشرفت مبانيه، فالتذت به آذان سامعيه.

وقال الحسن بن سهل العسكري في كتاب الصناعتين: الكلام -أيدك الله- يحصل بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخيل لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وموافقة مآخذه من مبادئه، فإذا كان الكلام كذلك، كان بالقبول حقيقاً، وبالتحفظ خليقاً.

ولا بأس من استعمال السجع غير المتكلف، هناك سجع متكلف، وسجع غير متكلف، انظر مثلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) تلاحظ هذا السجع الجميل ليس بمتكلف، ولكنه طبيعي خرج من النبي عليه الصلاة والسلام الذي أعطي جوامع الكلم.

وكذلك لا بد من الابتعاد عن وحشي الألفاظ، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم كره لنا التشدق في الكلام، بل إنه قد أخبر بمثل شنيع، فقال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) هل رأيت البقرة كيف تتخلل بلسانها؟ كره لنا عليه الصلاة والسلام التكلف في الكلام، والتشدق، والإتيان بالألفاظ الغريبة الوحشية والتقعر في الكلام، كره لنا هذا وشبه من يفعل ذلك بالبقرة التي تتخلل بلسانها.

ولا شك أن التقعر في الكلام واستخدام الألفاظ الوحشية والغريبة مما يسبب عدم الفهم، ويسبب النفور أيضاً.

دخل أبو علقمة على أعين الطبيب، وأبو علقمة هذا لغوي مشهور باستخدام الألفاظ الغريبة، فدخل وهو يشتكي، فكيف وصف مرضه؟ قال: أمتع الله بك! إني أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطفئت طفأة فأصابني وجع ما بين الوابلة -طرف الكبد- إلى دأنة العنق -يعني الفقرة- فلم يزل يربو وينمي حتى خالط الخلب والشراتيت، فهل عندك دواء؟ فهذا اللغوي يقول للطبيب هذا الكلام، فقال أعين: نعم.

خذ خربقاً وشلفقاً وشبرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه، فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك، فقال أعين: أفهمتك كما أفهمتني.

ومر أبو علقمة ببعض الطرق بـ البصرة فهاج به مرة -يعني عصارة المرارة هاجت به- فنزل على الأرض من الألم، فسقط ووثب عليه قوم -يعني ظنوه صرعته الجن- فأقبلوا يعصرون إبهامه ويؤذنون في أذنه، ظنوا به جناً، فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تتكأكئون علي كما تتكأكئون على ذي جنة؟! افرنقعوا عني، فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه هندي.

أما تسمعونه يتكلم بالهندية؟ وجلس أعرابي إلى أبي المكنون النحوي في حلقته وهو يريد أن يدعو بدعاء الاستسقاء فشرع في الدعاء، ثم قال: ومن أراد بنا سوءاً فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد على كرائد الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على هام أصحاب الفيل، ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً مجلجلاً مسحنفراً مزجاً سحاً طبقاً غدقاً متعنجراً -ألاحظ بعض الألفاظ وردت في الحديث، وبعض الألفاظ من تقعراته- فقال الأعرابي: يا خليفة نوح! هذا الطوفان ورب الكعبة، دعني آوي إلى جبل يعصمني من الماء.