للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغضب المطلوب وعلاجه]

ونأتي إلى مثالٍ واضحٍ جداً يبين لنا موقف الإسلام من بعض الانفعالات، وهو أحد الانفعالات التي تكون في النفس البشرية، ألا وهو انفعال الغضب؛ لنبين من خلال هذا الشعور والانفعال الذي يحدث في النفس، ما موقف الإسلام من هذه الانفعالات، وكيف يندفع المسلم لضبط انفعاله بضابط الشرع.

الغضب انفعالٌ يحدث في النفس لا شك في ذلك، فكيف كان علاج الشريعة لهذا الانفعال؟ نأخذه مثالاً نركز عليه لنبين أن في الشريعة علاجات كافية لهذه المشاعر، هل الغضب مذمومٌ دائماً أم لا؟ إن المتتبع لسيرته عليه الصلاة والسلام يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان حليماً متزناً، ولكنه في بعض الأحيان يغضب غضباً شديداً صلى الله عليه وسلم، فهل لنا أن نتعرف على الغضب في الإسلام وكيف يواجه كنموذج لموضوعنا في هذه الليلة؟ لا شك أن الغضب في الجملة خلقٌ مذموم، ولا شك أن هذا الغضب له أضرار كثيرة وعواقب وخيمة، ومن أجل ذلك جاءت الشريعة بعلاجات لهذا الغضب، وعلى هؤلاء الناس أصحاب الطبيعة الغضبية الذين يستفزهم الشيطان أن يتأملوا جيداً في علاج الشريعة لهذا الانفعال الحادث في النفس، ويتعلموا كيف يضبطون انفعالهم هذا وهو انفعال الغضب.

من الإجراءات الإسلامية التي جاءت لعلاج الغضب: أولاً: تنفيذ وصيته صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني؟ قال: لا تغضب، ردد ذلك مراراً) كل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب) وهكذا.

وفي رواية لـ أحمد قال: قال الرجل: (ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) فإذا أردت أن تهذب نفسك من الغضب فعليك بتنفيذ وصيته عليه الصلاة والسلام.

ثانياً: أن تعلم الحافز لترك الغضب، وهذا الحافز قد يكون ميزة دنيوية بينها عليه الصلاة والسلام في حال الرجال الأفاضل، أو ميزة وثواباً أخروياً يكون لمن ملك نفسه عند الغضب، فمثلاً: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يصطرعون فقال: (ما هذا؟ قالوا: فلانٌ لا يصارع أحداً إلا صرعه، قال عليه الصلاة والسلام: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه) فهذا الرجل لما استفزه رجل بكلمة فأغضبه صار حليماً، فأمسك زمام نفسه فكظم غيظه، فغلب الرجل الآخر بحلمه وغلب شيطانه هو حتى لا يدفعه إلى عمل شيءٍ ما من الرد، وغلب شيطان صاحبه، فهو قد تغلب على نفسه وعلى شيطانه وعلى صحابه وعلى شيطان صاحبه، قال الحافظ ابن حجر: رواه البزار بسندٍ حسن.

وهذا أصله في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة -يعني: إذا صارع غلب- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وبهذا لو قلنا: أيهما أصعب: أن يغلب الرجل الرجل في المصارعة أو أن يتغلب على غضبه؟ لا شك أن التغلب على الغضب أصعب من التغلب على الرجال في المصارعة.

وفي رواية أخرى في حديث حسنٍ قال عليه الصلاة والسلام: (الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه) حديث حسن.

إذاً: هذا الانفعال الذي له آثار على النفس، ويحدث منه احمرار الوجه واقشعرار الشعر، هذا إذا كان صاحبه يستطيع أن يغلبه ويكبته فهو الشديد حقاً.

ثالثاً: ومن العلاجات: التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له، فقال له: يا بن الخطاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به، فقال الحر بن قيس وكان من أصحاب عمر: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩] وإن هذا لمن الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل.

فإذاً التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، عندما يتذكر الإنسان قول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:٣٧]، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٤] إن التذكر والرجوع إلى الكتاب يورث في النفس دافعاً لكتمان الغضب وعدم الانقياد وراء التصرفات الهوجاء التي يدفع إليها الغضب.

رابعاً: ومن العلاجات أيضاً: تذكر الآخرة وما فيها، ولا شك أن تذكر اليوم الآخر بالنسبة للمؤمنين يعني شيئاً كثيراً، كما أنه بالنسبة للفساق لا يعني شيئاً على الإطلاق، بالنسبة للمؤمنين تذكر اليوم الآخر يعني أشياء كثيرة من التحميس للطاعات، والامتناع عن المعاصي، وضبط النفس.

أحد الملوك أو الخلفاء صعد على المنبر يوماً وقال: من أحق منا بهذا الأمر فيظهر لنا قرنه، فكان ابن عمر موجوداً قال: [فكدت أن أقول له: الذي أولى منك بهذا الأمر هو الذي ضربك وأباك على الإسلام] لأن هذا الخليفة كان كافراً ثم أسلم وكان أبوه كافراً ثم أسلم، لكني تذكرت الآخرة، قال ابن عمر: لكني تذكرت الآخرة، فكتم غيظه ولم يرد، والإنسان يستفز بأشياء والشيطان يقول له: رد ويدفعه للرد، لكن الذي يكظم غيظه ويكون الرد غير مناسب شرعاً ما الذي يضبطه ويصرفه عن الرد؟ تذكر الآخرة.

خامساً: وكذلك من علاجات الغضب: معرفة الجزاء لمن يكتم غضبه ويكظم غيظه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل: (لا تغضب ولك الجنة) وهذا فيه بيان أن منع الغضب يورث صاحبه الجنة، وأن أجر منع الغضب دخول الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) وكذلك في حديث آخر حسن: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فهل إذا تأمل الإنسان الأجر في كظم الغيظ وكتم الغضب في لحظة الغضب تذكر هذا الحديث، وماذا سيحصل؟ (من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فليتأمل الإنسان هل لو أنه انتصر لنفسه الآن ورد، وعافس الناس بالكلام، وربما كان بليغاً فأسكت الشخص الآخر الذي استفزه ورد عليه وأفحمه، هل يكون أجره أكبر أم لو احتفظ بهذا إلى الدار الآخرة لكي يخيره الله من الحور العين يزوجه منها ما شاء، وحتى يملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة؟ فلا شك أن العاقل سيقول: أحتفظ لنفسي بهذا الموقف إلى الدار الآخرة، ولو أن هذا الشخص استفزني ومن المصلحة أن أرد عليه لرددت عليه، لو أنه من أعداء الإسلام أو رجل يثير الشبهات لأسكته نصرة لدين الإسلام، ورفعاً للراية، لكن كثيراً من الشباب والناس في مجالسهم تحدث بينهم مناقشات ومخاصمات كلامية وجدل عقيم، وكلٌ منهم يريد إثبات صواب نفسه وخطأ الآخر، لا لشيء، لا لنصرة لمسألة علمية ولا لقضية في الدعوة إلى الله وإنما (أنت أخطأت لا.

أنا ما أخطأت لا.

أنت الخطأ منك) وهذه القضية إذاً صارت انتصاراً للنفس فليتأمل العبد إذاً بدلاً من ضياع الأوقات، وازدياد الحمق والغيظ عليه في نفس أخيه، واستهلاك كلٍ منهما لجهد الآخر؛ ليتأمل الأجر الموجود في الدار الآخرة، دعاء الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء، إنه لأجرٌ عظيم، أجرٌ كبيرٌ جداً يدفع كثيراً من الناس وبالذات الشباب في مجالسهم إلى تجنب الخصومة والمراء والجدل، ومحاولة إفحام أخاه المسلم وإثبات خطأ الآخر والانتصار لنفسه وتبرئتها وهكذا من الأشياء التي لا يترتب على الدفاع فيها شأن يذكر.

سادساً: ومن علاجات الغضب: تبين مساوئه، ومعرفة ماذا ينتج عن الغضب من الأضرار.

ينتج عن الغضب أضرارٌ كبيرة جداً سواء كانت على النفس أو على الآخرين.

فمما يحدث على الآخرين إليك هذا المثل العجيب من صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى: عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال: (إني لقاعدٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسبة -حبل مبتور علقه في رقبة غريمه وجاء يجره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي، فقال رسول الله عليه وسلم للمجرور: أقتلته؟ فقال صاحب الدم: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، فقال الرجل المتهم الذي في رقبته الحبل: نعم قتلته، قال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط -يعني: نضرب الشجر ليسقط ورقها فنأخذه علفاً للدواب- من شجرة، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه -أداة حادة قاتلة على جانب رأسه- فقتلته) فنتج الغضب عن أي شيء؟ نتج عن قتله لأخيه المسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ - أي: لو شفعنا لك فهل عندك دية تؤديها؟ - قال: مالي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فقال عليه الصلاة والسلام: دونك صاحبك -خذه يا ولي الدم، يعني قصاص القتل- فانطلق به الرجل، فلما تولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله، فرجع فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريد أن تبوء بإثمك وإثم صاحبك؟) أي: أما تكتفي أن عليه إثم القتل وإثمك أنت لأنه فجعك بقتل أخيك فصار عليه إثمان (قال: يا نبي الله بلى، قال: فإن ذاك كذاك، قال: فرمى بنسعته وخلَّى سبيله).

فسبحان الله! كيف