للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فوائد معرفة حقارة الدنيا]

يستفاد من عرض هذا المفهوم ألا نتعلق بزينة الدنيا فنهلك، ألا نمد أعيننا إلى ما متع الله به أقواماً من الكفرة والفسقة {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:١٣١] قال بعض السلف: بيننا وبين الأغنياء والملوك يوم واحد، أما أمس فقد مضى علينا وعليهم، وذهبت لذتهم وذهب بؤسنا في الأمس، فنحن وإياهم سواء، وفي الغد هم على وجل وخوف أن يذهب ملكهم أو غناهم، ونحن ما جاءنا بؤس الغد بعد، فنحن وإياهم في الغد سواء، وإنما هو اليوم هذا الذي نعيشه، فما عسى أن يكون ساعات وينقضي.

هذا يستفاد منه -أيها الإخوة- الاستعداد ليوم الرحيل بالعمل، قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حاتم الواعظ: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب.

كل جهده وضعه في هذه الدنيا، بناء بيوت وتحصيل أموال؛ فيكره الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، ما عمل للآخرة شيئاً، عمله للآخرة قليل، لكن هذه الدنيا التي وضع فيها حيله وحاله.

وكذلك فإن الآخرة تقدم في العمل على الدنيا، الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] وابتدأ بالآخرة بالأمر بالعمل ثم الدنيا، قال في الدنيا: تمشي، وقال في الآخرة: تسعى، والسعي أسرع من المشي، إذا اشتغلت بالدنيا أضررت بالآخرة والعكس بالعكس كما قال بعض السلف: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

هذا الموضوع -يا أيها المسلمون- حتى إذا رأينا صاحب متاع لا نتأسف ولا نتحسر، وإنما نقول: هذه زينة، إن كان إنساناً تقياً فهو يطيع الله في هذا المال، وإن كان فاسقاً فهو استدراجٌ له، وإن كان كافراً فهذا غاية مناه وقصارى ما يأمل في هذه الحياة.

الدنيا مثل الحية لين مسها قاتل سمها، الدنيا إما نقمة نازلة أو نعمة زائدة، لا بد إذاً أن توطن النفس على الذهاب من هذه الدنيا والرحيل، الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وآثارها تبقى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:١٢] خطوات المشي إلى المساجد تبقى عند الله، والصدقات تبقى للآخرة، الآثار هذه الآثار وليست الآثار التي يتفرج عليها الناس في السياحة.

وهذا المفهوم أيضاً يجعل الإنسان سخياً بما في يده في سبيل الله، يضع ما عنده في سبيل الله؛ لأنه يعلم أن هذا الذي ينفق هو الذي يبقى، والذي يدخره عنده هو الذي يزول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، ما بقي منها إلا كتفه، أنفقت وبقي جزء، فأخبرها أن الباقي هو الفاني وأن ما أنفقته هو الباقي.

روى ابن المبارك في كتابه الزهد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حوائجك.

فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه كما وصلني، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها وانتهت كلها! فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، ثم تلهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في حاجتك.

فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا.

فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، هذه زوجته تقول: اجعلنا في عداد المساكين، نحن محتاجون، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها.

فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.

فحقارة الدنيا إذاً وزوالها يدفع الإنسان للإنفاق والبذل والعطاء؛ لأن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ولو أنفقتها فقد جعلتها في كف الرحمن، وما عند الله باق، فهي في كفه سبحانه وتعالى يربيها لصاحبها حتى تكون كالجبل العظيم.