للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحلة بقي بن مخلد إلى الإمام أحمد]

كذلك فإن من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد رحمه الله، وهذا من علماء الأندلس، وهذا الرجل رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد، قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصلني خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل.

والمحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد السجن والضرب، والإقامة الجبرية، ومنع من التحديث والتدريس بقي بن مخلد رحل من الأندلس وجاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل فوجده مفروضاً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس ولا يستطيع أحد أن يقترب من بيت الإمام أحمد، فماذا فعل؟ قال: فاغتممت بذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزال متاعي في بيت اكتريته -في بعض الفنادق- أن أتيت الجامع الكبير -نزل العفش في الفندق وأتى إلى الجامع الكبير- وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرونه، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي -فلان ثقة، فلان ضعيف وهكذا- فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا يحيى بن معين، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله رجل غريب، نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني.

فقال لي: قل.

فسألته عن بعض ما لقيته من أهل الحديث فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار؟ فقال: صاحب صلاة دمشقي ثقة وفوق الثقة إلخ، فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال، فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد -أريد أن أسألك عن رجل: أحمد بن حنبل؟ فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل؟ إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.

ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي ففتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه -ما عرفني- فقلت: يا أبا عبد الله! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الاسطوان -أي: الممر إلى داخل الدار- ولا تقع عليك عين -غيره تحت- فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى.

فقال لي: أفريقيا؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقيا، الأندلس.

فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك -وصلني الخبر بمنعك من التدريس وأنا داخل على البلد- فقلت له: يا أبا عبد الله! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -أنا غير معروف في البلد- فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال -ألبس ملابس الشحاذين- وآتي إلى بيتك فأقول عند باب الدار ما يقولونه -أي: أقول عند باب البيت ما يقوله الشحاذون- فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه الكفاية.

فقال لي: نعم.

على شرط ألا تظهر في الحلق ولا عند أصحاب الحديث، فقلت: لك شرطك -حتى لا يعرف، ويبقى هذا غريب مجهول- فكنت آخذ عوداً بيدي -مثل الشحاذ- وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي -التي يكتب بها في كمه- ثم آتي في بابه أصيح: الأجر رحمكم الله.

فيخرج إلي ويغلق باب الدار ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر وهكذا حتى اجتمع لي نحواً من ثلاثمائة حديث، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له - الخليفة الذي امتحن أحمد مات- وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل وسما ذكره إلى آخر القصة.

قال فيها: فكنت إذا حضرت حلقته فسح لي وأدناني، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.

أحمد يقول للناس بعدما رجع إلى التدريس وانفك من المحنة: هذا فعلاً يسمى طالب علم، هذا الذي ركب البحر من الأندلس إلى أفريقيا وجاء إلى بغداد، هذا الذي رضي أن يلبس ملابس الشحاذين حتى يتعلم كل يوم حديثاً أو حديثين، هذا يصلح أن يقع عليه اسم طالب علم، فالآن اسم طالب العلم صار اسماً ممتهناً للكل، يقولون: فلان طالب علم، وما فعل شيئاً مما فعله بقي.

قال: ثم يقص عليهم قصتي معه، كان يناولني الحديث مناولة ويقرأه عليه وأقرأه عليه، فاعتللت علة -يقول: مرضت مرضة- ففقدني من مجلسه فسأل عني فعلم بمرضي، فقام مباشرة عائداً إليَّ -هذا كان قد استأجر غرفة في الفندق- قال بقي وهو مريض في الفندق: فسمعت الفندق قد ارتج بأهله وأنا أسمعه، يقول: هو ذاك أبصروه، هذا إمام المسلمين.

الإمام أحمد رفع الله ذكره، كان إذا دخل حارة أو مكاناً أو فندقاً قام الناس وقالوا: جاء أحمد، جاء أحمد، كان بقي مريضاً في الفندق، فلما دخل أحمد ضج أهل الفندق، فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك، فدخل فجلس عند رأسي وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم؛ حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعادك الله إلى العافية.

ثم خرج عني فأتاني أهل الفندق يلطفون بي ويخدمونني ديانة وحسبة فأحدهم يأتي بالفراش، وآخر باللحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم لماذا؟ لعيادة الرجل الصالح لي أحمد بن حنبل.

وبقي بن مخلد قد رحل إلى مصر والشام والحجاز وبغداد رحلتين: امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً؛ ولذلك كتب مجلدات.