للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف العلماء في حكم التفضيل بين الأولاد]

وزعم بعض أهل العلم أن التفضيل مكروه، ولكن المتأمل في الحديث ورواياته وألفاظه يعلم علماً بأن التفضيل محرم، وأن المساواة بين الأولاد في الأعطيات واجبة، وأن الذي يخالف في ذلك فهو آثم، واستدل من قال بالكراهية بقوله: (أشهد على هذا غيري) وهذا اللفظ تهديد، وليس إذناً أبداً لتسميته عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر جوراً، وهذه الألفاظ التي سقناها كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه، تؤخذ من الحديث، وقد ألف في ذلك مصنفاً مستقلاً.

وقوله: (أشهد على هذا غيري) فإنه ليس إذناً منه قطعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في الجور ولا فيما لا يصلح ولا في الباطل، فإنه قال: (إني لا أشهد إلا على حق) فدل ذلك على أن الذي فعله والد النعمان لم يكن حقاً بل باطلاً، فقوله إذاً: (أشهد على هذا غيري) حجة على التحريم كما قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:٤٠] وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) هل يعني هذا: أن الذي لا يستحي يجوز أن يصنع ما يشاء؟ كلا.

بل هو توبيخ وتقريع وتهديد.

وقال رحمه الله في إغاثة اللهفان تحت مبحث سد الذريعة، وأمر صلى الله عليه وسلم بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، ولا تنبغي الشهادة عليه، ولا يجوز أن تشهد لو قال لك أب: اشهد يا جاري على أن هذه الأعطية لأحد أولادي دون الآخرين قل له: لا أشهد: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:٢].

إن كانت شهادة زور وظلم فلا تشهد، قال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:١٥٠] وأمر فاعله برده، ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الأولاد، وقطيعة الرحم كما هو مشاهد عياناً، فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه، لكانت أصول الشريعة والقياس يقتضيان العدل ووجوبه بين الأولاد.

وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي النعمان بن بشير، وقد خص ابنه بالنحل: (أتحب أن يكونوا في البر سواء؟) كيف تجد كلامه عليه الصلاة والسلام؟ مبيناً الوصف الداعي إلى شرع التسوية بين الأولاد، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فكما أنك تحب أن يكونوا سواء في برك وألا ينفرد أحدهم في برك دون الآخرين، فكيف ينبغي أن تفرد أحدهم بالعطية وتحرم الآخر؟.

وقال في إعلام الموقعين في علة النهي في الفتوى: ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي النعمان بن بشير: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) وفي لفظ: (إن هذا لا يصلح إني لا أشهد على جور).

وقال رحمه الله في الإعلام في ذكر طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك البعض الآخر، واحتجوا على جواز تفضيل الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه: (أشهد على هذا غيري) ثم خالفوه صريحاً، فإن في الحديث نفسه: (إن هذا لا يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) وقال: فقالوا: بل هذا يصلح وليس بجور، ولكل أحد أن يشهد عليه.

فانظر كيف خالف المقلدة المتعصبون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على الإباحة على أن أبا بكر قد أعطى أحد أولاده عشرين وسقاً دون سائر أولاده،

و

الجواب

أن أهل العلم قد ذكروا ضعف هذا الحديث في طريقين، وأنه يُحتمل أنه خصها لحاجة، وإذا حصل الاحتمال بطل الاستدلال، وافرض أنه صحيح ولا احتمال هناك، فهل تعارض بفعل صحابي حديثاً صحيحاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وممن قال بوجوب التسوية من أهل العلم الإمام البخاري رحمه الله، وطاوس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية، قال الشوكاني: فالحق أن التسوية واجبة، وقال الإمام أحمد في دخول الأم مع الأب في وجوب التسوية، قال: إن حج بها ولدها دون أخويه، تعطيه أجرته وتسوي بين أولادها -تعطيه الأجرة فقط، وتسوي بين أولادها- ولا يجوز لها أن تخص أحداً من أولادها دون أحد، فإن فعلت أثمت كما يأثم الأب، ووجب عليها أخذ الزائد كما يجب على الأب، أو زيادة الأولاد الآخرين، إذا أعطيت واحداً زيادة دون سبب إما أن تعطي الآخرين مثله أو أن تسحبها من الولد الذي أعطيته، وحديث النعمان دليل على جواز رجوع الأب في عطيته وهبته للولد إذا كان ظالماً.

والعطية والهبة لا يجوز الرجوع فيها على القول المختار لحديث: (ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب في يعود في قيئه بعد إلقائه) لكن الأب يجوز له أن يرجع في العطية والهبة، ولو لم يساو ومات قال الإمام أحمد: يرد على بقية الأولاد ويوزع بينهم بالتساوي، ولا وصية لوارث، لا يجوز أن يكتب في الوصية لأحد الأولاد، لأن الله قسم بينهم في القرآن والسنة، فلا وصية لوارث، لا يكتب لأحد الورثة في الوصية شيئاً أبداً، ويجوز للأب أن يرجع إلا إذا تغيرت الهبة عند الولد، مثل أن سمن الغنم، أو أعطاه مالاً ثم نماه الولد، فلا يجوز له أن يأخذه بعد التنمية، وبعد أن زاد بمجهود الولد.