للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم رد السبب في الانتكاس إلى الوسط المعايش]

وأخيراً: قد يسبب هذا الوضع حالة من حالات الخوف والذعر بين إخوانه أكثر مما ينبغي، قد يسببه زهد من حول هذا الشخص من إخوانه في الله وفي نظرتهم إلى ذلك الوسط الذي يعيش فيه، وقد يستدل البعض بانحراف ذلك الشخص على سوء الوسط الذي يعيشون فيه، ولكن ينبغي أن نعلم أن الله قد كتب على أناس الضلال، وكتب عليهم الشقاوة فماذا نملك لهم؟ بعض الناس يخاف على نفسه، وقد يحدث له من شدة الخوف نفس الشيء.

واحد قد يرى هذا فيتملكه الخوف الشديد والذعر ويحس أنه سيسقط وفعلاً يسقط، ولذلك لا بد أن نتأمل هذه الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:١١٥] قال الشيخ السعدي رحمه الله في التفسير: إن الله تعالى إذا امتن على قومٍ بالهداية وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى متمم لهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين جاهلين بأمور دينهم.

ويحتمل أن المراد بذلك: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:١١٥] فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى.

وختاماً: فهذه كلمات من كلام ابن القيم أسوقها في ختام هذا الموضوع إلى ذلك الشخص الذي كان مستقيماً فانحرف وتلوث بالمعاصي، فرجع إلى نفسه رجعةً تذكر فيها حلاوة الماضي وطعم الإيمان الذي فقده، فتشوقت نفسه للرجوع، نسوق له كلام ابن القيم رحمه الله، اسمعوا هذا الكلام فهو في غاية الجودة في التعبير عن المقصود، يقول على الرجل الذي انتكس ويريد العودة: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه، يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجةٍ له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضد ما كان يعامله به أبوه، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد ذبحه في نهاية المطاف، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه -الآن هذه مرحلة تذكر الشخص المنتكس الماضي ويريد الرجوع- فرأى أباه منه قريباً فسعى إليه وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تسيل على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه -الولد الآن عند أبيه والعدو يسعى يطالب به حتى وقف عند رأسه- وهو ملتزمٌ بوالده ممسكٌ به فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها، ومن الوالد بولده، إذا فر عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب ارحم.

وصلى الله على محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.