للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين النصيحة والتشهير]

نبدأ بالكلام عن الركن الأول من أركان النصيحة، وهو ما يتعلق بالناصح، كثيراً من الناس تختلط عليهم الأمور، فلا يفرقون بين النصيحة أو التأنيب، وبين النصيحة والغيبة، ويعتدون في أساليبهم على الناس اعتداء سيئاً، فنحن الآن سنتكلم عن الفرق بين النصيحة والتأنيب أو التشهير.

ذكر ابن القيم رحمه الله مباحث جليلة في الفروق بين النصيحة والتشهير في كتابه الروح، وهي مهمة ينبغي الرجوع إليها، فمن المباحث الفروقية التي ذكرها في هذا الكتاب، يقول: النصيحة: هي إحسان إلى المنصوح بصورة الرحمة له، أي: أنت تتكلم وأنت تريد أن تتحدث بلهجة الراحم بهذا الشخص، والشفقة عليه، والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض، إحسان نقي ليس فيه شوائب، يصدر عن رحمة ورقة، ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه.

وأما المؤنب أو المشهر فهو رجل ليس قصده الله والدار الآخرة، وليس قصده الإحسان، وإنما قصده التعيير والإهانة وذم من أنبه وشتمه في صورة النصح.

أي: هذا شتم لكن نصيحة، فهو يقول: يا فاعل كذا وكذا، يا مستحق للذم والإهانة في صورة الناصح المشفق، كيف تمشي هذه؟ كيف تركب؟ وعلامة هذا الرجل المؤنب -انظر ابن القيم رحمه الله يضع فرقاً دقيقاً- يقول: علامة هذا المؤنب أنه لو رأى عاصياً في معصية فإنه يؤنبه في نفس المجلس ولو رأى عاصياً آخر في نفس المعصية، لكنه يحبه ويحسن إليه -أي: بينه وبينه مصالح مشتركة أو أن بينهم ميول ومحبة وإحسان- فإنه لا يعرض له، ولا ينصحه كما نصح الأول، مع أنها نفس المعصية، لا ينصحه ولا يقول له شيئاً، ويطلب له وجوه المعاذير، يقول: يمكن كذا ويمكن كذا، يلتمس له أعذاراً، فإن غلب ولم يلق عذراً قال: وأنا ضمنت له العصمة؟ أي: ليس هناك أحد معصوم؛ والإنسان معرض للخطأ، ومحاسنه أكثر من مساوئه، عنده حسنات كثيرة والحمد لله، والله غفور رحيم ونحو ذلك، فيا عجباً كيف كان هذا لمن يحبه دون من يبغضه! وكيف كان حظ ذلك منك التأنيب في صورة النصح، وحظ هذا منك رجاء العفو والمغفرة وطلب المعاذير.

ومن الفروق بين الناصح والمؤنب: أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته، بعض الناصحين إذا لم يقبل المنصوح نصيحته لا يكلمه ولا يسلم عليه ولا يعرفه، ويشتمه ويسبه ويذكره بالسوء، لماذا لم يسمع كلامي؟ أما الناصح الحقيقي فيقول للمنصوح الذي لم يقبل: وقع أجري على الله قبلت أو لم تقبل، ويدعو له بظهر الغيب، ولا يذكر عيوبه ولا يبينها بين الناس ويشهر به.

أيها الإخوة: إن من الصدق في الأخوة أن يقال للرجل في وجهه ما يكره، فإن كان على وجه النصح فهو حسن، فقد قال بعض السلف لبعض إخوانه: إنك لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما أكره؛ لأن هذا إحسان أن تخبر أخاك المسلم بالعيب الذي عنده، هذا إن كان على وجه الإحسان، صحيح أن ذاك شيء يكره لكن تنصحه، وإن كان على وجه التوبيخ بالذم فهو قبيح مذموم، وقيل لبعض السلف: أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا.

ومن الأدلة على عدم جواز التوبيخ في النصيحة من غير حاجة، لأن هناك حالات تكون فيها التوبيح لغير حاجة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: (إذا زنت الأمة فتبين زناها -بالحمل وما أشبه ذلك- فليجلدها -أي: سيدها- ولا يثرب) لا يثرب، أي: لا يعيب ولا يوبخ ولا يعيرها بذنبها؛ لأن الحد قد أقيم عليها، والحد إذا أقيم على أحد فهو كفارة له، فلماذا بعد ذلك يقال: فلانة زانية، وقد أقيم عليها الحد وطهرت من هذا الذنب؟ يدخل في ضمن التشهير، النصيحة أمام الآخرين، ولذلك قيل: النصيحة بين الملأ فضيحة، ومنها كذلك: أن بعض الناس الذين يؤنبون أبناءهم في المجالس أمام الضيوف، أو المدرس الذي يؤنب الطالب في الفصل أمام الناس، أو الزوج الذي يؤنب زوجته أمام أقربائه أو المحارم، فيقول: أنتِ طبخك فيه كذا وهكذا ينزل فيها تأنيباً وشتماً وتعييراً أمام الناس، هل هذه نصيحة؟ لا يمكن أن تسمى نصيحة، وإنما هذا تشهير وهو محرم، ولذلك قال الشافعي رحمه الله في أبياته المشهورة:

تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه

فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تغضب إن لم تعطَ طاعة

انصحني منفرداً لا تنصحني بين الناس، إذا لم أطعك فلا تستغرب، الشافعي رحمه الله يتكلم بلسان عامة الناس وإلا فهو رحمه الله يقبل النصح حتى من الشخص الذي يشهر به، يأخذ النصيحة منه، ولذلك تجنب التشهير في النصيحة أمر مهم، ولهذا كانت النصيحة بالقدوة من أعظم وسائل النصح؛ لأنها خالية من التوبيخ والتشهير، وقد ذكرنا سابقاً هذه القصة اللطيفة، ولو أنه ليس لها إسناد كما ذكر الشيخ الألباني حفظه الله، ولكن لا يؤخذ منها أحكام ولا أشياء شرعية، ولذلك كما ذكر العلماء لا بأس بذكر هذه القصص التي لا يعرف حالها إذا كان فيها فوائد، فتذكر للعبرة والعظة لا لأخذ الأحكام، أما ما عرف كذبه فهذا شيء آخر، القصة هي: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما دخلا على رجل يتوضأ، وكان هذا الرجل وضوءه سيء جداً والله لا يقبل الصلاة إلا بوضوء صحيح، فهما الآن في حيرة ينبهون هذا الرجل الذي هو أكبر منهما في السن إلى الطريقة الصحيحة من غير جرح كبريائه أو أحاسيسه أو هو رجل أكبر في السن، فكيف يفعلون؟ فنظر الحسن إلى الحسين نظرة ذات معنى، ثم تقدم من الرجل، فقال له: يا عم! أنا وأخي قد اختلفنا أي واحد وضوءه أحسن، أنا أقول: وضوئي أحسن، وهو يقول: وضوءه أحسن، أنا أقول وضوئي موافق لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول وضوءه أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وضوئي، فالآن جئنا إليك تحكم بيننا، فتقدم الحسن فتوضأ وضوءاً كاملاً فأسبغ الوضوء واتبع السنة، فلما انتهى الحسن تقدم الحسين فتوضأ وضوءاً لا يقل حسناً عن وضوء أخيه، ولما رأى الرجل المنظر، قارن بحال نفسه وفهم، قال: والله أنتما على صواب وأنا على خطأ.

انظر إلى هذا الأسلوب الحكيم الدقيق الذي ينم عن ذكاء وفطنة لطريقة النصيحة، وقارن بين هذا وبين حال ذلك الرجل الذي ذكرنا قصته سابقاً والذي ترك الصلاة كلها لأن رجلاً شهر به بين الناس وهو يتوضأ.

المشكلة أن الناس البعداء عن الإسلام بالذات الواحد منهم كالبالونة، منتفخ ومنتفش، لا يريد أن يقترب أحد منه، له كرامته وهذا شيء تضخم مع الأسف، كرامته ومشاعره وأحاسيسه، ولذلك يريد شيئاً بسيطاً، ويثور عليك ويزبد؛ لأن الناس الذي يعيشون في الجاهلية وهم بعيدون عن شرع الله، الواحد منهم لا يعرف شيئاً اسمه أخوة ولا نصيحة، ولا يعرف شيئاً اسمه قبول الحق أو الابتعاد عن الهوى.

أحياناً تكون النصيحة أمام الناس أو بين الجماعة لا بد منها، كأن يكون شخص في ظرف معين، لا يمكن إلا أنك توجه النصيحة أمام المجموعة، ولا يوجد وقت أنسب من هذا الوقت، ولو أنك لم تنصحه فات الوقت، فمثالاً: ما رواه مسلم من حديث سليك الغطفاني: أنه دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس من غير أن يصلي ركعتين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -والناس جلوس يستمعون إلى الخطبة-: (أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما) لماذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: الآن نتركه يجلس وبعد الصلاة سوف أنصحه بانفراد؟ لأنه لو سكت فعل المحظور، ولو جلس من غير أن يصلي ركعتين فات وقتهما وكيف يقضيهما بعد ذلك؟ لا يمكن، لأن الركعتين وقتهما عند دخول المسجد، فلذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوم ويصلي الركعتين.

كذلك الرجل الذي كان يتخطى رقاب الناس والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب -شخص يؤذي المسلمين ويتخطى رقاب العالم بدون حياء وبدون هيبة وبدون أي شيء- فقال صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت) قالها أمام الناس، لماذا؟ لأن الجرم فضيع، ولأن هذا الرجل كان يؤذي الناس، ولو سكت عليه وقال: أنصحه بعد الصلاة، ماذا يترتب على هذا؟ أذية للمسلمين.

أحياناً -أيها الإخوة- يكون الذنب عظيماً، ويكون لا بد من تعظيمه في عيون الناس، ولا بد من تسليط الأضواء على هذه القضية التي حدثت، مثال: ابن اللتبية رجل من الصحابة، ويخطئ كالبشر، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقات والزكوات، فقال: (يا رسول الله! هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فغضب الرسول غضباً شديداً وصعد المنبر، وجمع الناس وقال: أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيأتيه أم لا) فكل ما جاء نتيجة استخدام عامل في شيء من الفوائد أو العوائد فإنه يرجع إلى صاحب الحق أصلاً: (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه) هذا تقريع؛ لأن القضية خطيرة، والمسألة تحتاج إلى نشرها بين الناس حتى يتعظوا بها، فقد يكون هناك سلبية في جرح شعور الشخص، لكن المصلحة أكبر من المفسدة، ومع هذا يجب على الإنسان أن يكون حكيماً حتى عندما ينصح بين الناس في المجلس.

وقصة عبد الله بن المبارك من أجمل القصص في هذا الموضوع، كان عبد الله بن المبارك جالساً وحوله أصحابه، فعطس رجل في المجلس ولم يقل: الحمد لله، فالآن لو أتى شخص وقال له: أنت ما عندك علم وأنت جاهل، لماذا لا تقول: الحمد لله، تعطس مثل البهيمة، قد يقول قائل هذا، الآن لو سكت عنها ذهب الوقت، فماذا يفعل عبد الله بن المبارك حتى يصل إلى مقصوده من إبداء النصيحة من غير جرح لكبرياء ذلك الرجل؟ فقال عبد الله بن المبارك على هيئة السؤال للرجل الذي عطس، ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ فقال الرجل: الحمد لله، فقال ابن المبارك: يرحمك الله، فحصلت القضية وانتهت بسلام، وأدينا الغرض، الرجل حمد الله وشمتناه، وصار المقصود بدون أن تحدث مضاعفات و