للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب محبة أولياء الله]

ثم إن من صفاتهم كما تقدم: أنهم أذلة للمؤمنين، يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكفرة بالغلظة والشدة والعزة؛ وذلك لأن أولئك المؤمنين يحبون الله، فهم يحبونهم لأجله، لا يحبون الشخص لشخصه، ولا لشكله، وإنما يحبونه لأجل محبته لله، ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قاعدة مهمة في الجمال في كتاب الاستقامة، لعلنا سنأتي إلى تفصيلها إن شاء الله، قال ما معناه: لو أن الشخص يحب لجماله لكان يوسف أفضل من كل الأنبياء، ولكن لا يحب الشخص لشكله ولا لجماله ولا لماله، ولكن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فمن صفات هؤلاء الأولياء الذين يدافع الله عنهم، وينصرهم وينتصر لهم، من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.

ولذلك فإن هؤلاء لا يغلظون للمؤمنين، ومن الصفات السيئة أن تجد الشخص يقع في أهل الإيمان والتوحيد، ويقع في أعراض الدعاة إلى الله، يقع في أعراض أهل العلم؛ يسب ويشتم، ويرمي بأنواع السباب والمعايب أهلَ التوحيد والدين، والذين قاموا بواجب الدعوة والأمر والنهي، فهذا لا يمكن أن يكون من أولياء الله بحال، بل سرعان ما يخبو أمره وينطفئ، ويحدث انتقام الله منه، ويرى ذلك بأم العين في الدنيا قبل الآخرة.

والمتأمل في الواقع يعرف أن هذا أمر حاصل؛ لأن سنة الله تعالى في الحياة ماضية، وقد تكفل الله بالدفاع عن أوليائه، ولذلك فإنك لا تكاد ترى من يقع في أهل الإيمان والدين ونصرة الشريعة إلا والله منتقم منه ولو بعد حين.

قال الله عز وجل في صفات الأولياء: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:٥٤] ما داموا قد أحبوا حبيبهم وهو الله عز وجل فلا يخافون في سبيله شيئاً، فيعملون بمرضاته، رضي من رضي وسخط من سخط، ولذلك فمن الأمور المهمة أن الإنسان يحب أولياء الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني ربي عز وجل -في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك) هذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله والترمذي وقال: حسن صحيح.

وقال: سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح.

إذاً إذا كان الإنسان عنده إيمان ويقين ودين، ويريد أن يتصف بصفات الولاية، فعليه أن يسأل الله محبة أوليائه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك) لأن هناك أناساً محبتهم تضر عند الله، وأناساً محبتهم تنفع عند الله، ولذلك يقول: (اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب -الإنسان يحب المال، يحب الزوجة، يحب الشهوات- اللهم ما زويت عني مما أحب -ما حرمتني من النعم- فاجعله فراغاً لي فيما تحب) وهذا الحديث رواه ابن المبارك رحمه الله في كتابه الزهد، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي رحمه الله تعالى.

وهذه الدرجة التي ليس لأصحابها همٌّ إلا ما يقربهم من محبوبات الله تعالى، ومن الأشخاص الذين يحبهم الله عز وجل، قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور.

وهذه عبارة بالغة بليغة، (العمل على المخافة) إذا عملت من أجل الخوف فقط، فقد يعتريك الفتور إذا حصل لك رجاء، فالإنسان الذي يعمل فقط خوفاً من العذاب، هذا إذا جاء يوم من الأيام وتأمل فحصل له شيء من الرجاء أو مر به شيء مما فيه ذكر رجاء الله تعالى وثوابه؛ حصل له شيء من الفتور؛ لأن الدافع للعمل هو الخوف، فإذا حصل شيء من الرجاء خفّ للخوف فإذا كان الدافع للعمل هو الخوف الذي قد خف خفَّ العمل أيضاً لكن إذا كان الدافع للعمل هو محبة الله، فأي شيء يخففها؟ لا شيء، ولذلك كان الدافع للعمل إذا صار فيه محبة أقوى منه إذا صار من الخوف، ولذلك المحبة هي الرأس والخوف والرجاء الجناحان، وإذا قطع الرأس لا يطير الطائر أصلاً ولا يمشي ولا يتحرك.

من الناس من يعبد الله خوفاً، ومن الناس من يعبد الله رجاءً، ومن الناس من يعبد الله محبة، والمؤمن ينبغي أن تجتمع فيه هذه الثلاثة بدون أن ينتفي شيء منها، لو انتفى شيء منها معنى ذلك أنه قد وقع في خطر عظيم، فإذا صار الدافع للعمل محبة الله، فلا تخف، فيستمر العمل، إذا كان الدافع هو الخوف، يمكن أن يخف إذا عرض عارض رجاء في الفكر أو السماع، أو قراءة شيء مما فيه سعة الرحمة والتوبة، حصل للخوف نقص، ففتر العمل.

وكذلك قال بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.

فالبطالون الذين يسعون في الدنيا بالبطالة يسأمون ولا بد، فإما أن يحصل عندهم شيء من الملل من كثرة ما يفعلونه ومن تشابه ما يفعلونه؛ لأن هذه الأشياء التي في الدنيا من الملهيات والألعاب والنعيم، لا بد فيها من آفات، فالأكل إذا أكثر منه مرض، والشهوة إذا أكثر الوقوع فيها مرض واضمحلت قوته، وهذه الألعاب الموجودة لو أكثر منها لأصابه الملل، ولكن مناجاة الله تعالى وذكره لا يحصل فيها ذلك إذا كانت موافقةً للسنة، ومن ذلك قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى).

ومن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل؛ يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه، وهذه الصفة مهمة جداً؛ أعني تحبيب الله إلى الخلق.