للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم تولية غير المسلمين على المسلمين]

ومن مقتضيات الأخوة والولاية للمؤمنين: عدم تولية غير المسلمين على المسلمين، قال ابن تيمية رحمه الله: روى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لـ عمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً -وجدت رجلاً يجيد الكتابة والحساب جعلته عندي كاتباً يحسب في أمور المسلمين، ويكتب شئونهم- قال: مالك قاتلك الله -كان عمر شديداً في دين الله- أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:٥١] ألا اتخذت حنيفاً؟ -أي: موحداً مسلماً، جعلته في هذه الوظيفة- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه -أنا آخذ منه كتابته وعمله وله دينه، كفره عليه- فقال عمر رضي الله عنه: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله.

لا يمكن.

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة العادل إلى بعض عماله يقول: أما بعد فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح المسلمين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٥٧] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -هذا الكاتب النصراني اسمه حسان بن زيد - إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيءٍ من مصالح المسلمين، فأسلم حسان وحسن إسلامه.

ولقد لعب هؤلاء الكتبة أدواراً في هدم الإسلام عبر التاريخ الإسلامي، فلعب ابن العلقمي الرافضي الخبيث دوراً مهماً في تسليم بغداد للتتر الكفار، ومن الأمثلة الأخرى على ذلك ما حدث في بعض العهود الإسلامية الماضية أن سلطاناً من سلاطين المسلمين اتخذ كاتباً من النصارى، وكان هذا الكاتب يسمى محاضر الدولة أبو الفضل بن دخان، ولم يكن في المباشرين أمثاله، كان من أقرب الناس إلى السلطان، كان قذىً في عين الإسلام، وبثرةً في وجه الدين، بلغ من أمره أنه حكم على رجل نصراني أسلم برده إلى النصرانية، وخروجه عن الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الإفرنج -النصارى الكفار- بأخبار المسلمين، يرسل إليهم بالأخبار التي يطلع عليها بحكم موقعه، وأعمالهم وأمر الدولة، وتفاصيل أحوالها، وكان مجلس هذا النصراني معموراً برسل الإفرنج النصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم عنده مقضية، ويحمل لهم الضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عند الباب لا يؤذن لهم بالدخول، وإذا دخلوا لا يلطفون في التحية ولا في الكلام، حتى صار بعد ذلك أن اجتمع لدى السلطان جماعة من الكتاب والقضاة والعلماء، فبسط بعضهم لسانه في ذكر مخازي النصارى، وكان مما قاله للسلطان: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:٧٣] ثم قال: كيف تأمن أن يصنع في معاملة السلطان كما صنع في أصل اعتقاده؟ ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة، وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين.

ثم اتفق بعد ذلك أن ظهرت خيانته فأهريق دمه واستراح المسلمون من شره.

ومن مقتضيات موالاة المؤمنين: أن تكون النصرة والحلف مع المؤمنين لا مع الكفار، حتى لو وقع الإنسان في الأزمات وأحاطت به الأخطار، وفي التاريخ الإسلامي في الأندلس عبرة لكل معتبر، ففي نهاية حكم الإسلام لبلاد الأندلس تفرق المسلمون إلى دويلات كثيرة في بلاد الأندلس حتى صار أمرهم كما يصف الشاعر:

وتفرقوا شيعاً فكل مدينةٍ فيها أمير المؤمنين ومنبر

وصار بعضهم يستعين بالنصارى من الأسبان على إخوانه المسلمين من الدويلات الأخرى، ويذهب بعضهم إلى ملوك النصارى ليعقد معهم الأحلاف ضد إخوانهم المسلمين.

وهنا أيها الإخوة: حدثت حادثة مثيرة كتبها التاريخ، كانت ذات أثرٍ عظيم، أخرت سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس مئات من السنين، عندما تحققت في هذه الحادثة الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، وهذه الحادثة أنه كان على مملكة إشبيليا المعتمد بن عبَّاد كان يحكمها آل عبَّاد، وكان المعتمد على الله ابن عبَّاد من أفاضل حكام تلك الدويلة، فلما سقطت طليطلة في يد الفرس واستالس ملك النصارى، تنبه المسلمون للخطر العظيم، ولاحت طوالع المصير المروع، فبرزت فكرة إلى الأذهان، وهي فكرة استعانة المسلمين في بلاد الأندلس بإخوانهم المسلمين المرابطين في دولة المغرب القريبة منهم، وكان أمير المرابطين في دولة المغرب في ذلك الوقت من أهل السنة والجماعة ممن نصروا مذهب أهل السنة والجماعة في بلاد المغرب، وهو يوسف بن تاشفين رحمه الله، فعقد في قرطبة اجتماعاً حضره الزعماء والفقهاء وكثير من الناس، وعلى رأسهم المعتمد بن عبَّاد، وطرحت فكرة استدعاء المرابطين إلى الأندلس للنصرة ضد الكفار النصارى، واتخذ القرار بذلك، وهنا أشار بعضهم إلى مخاوف، ما هي هذه المخاوف؟ قالوا للمعتمد بن عبَّاد: إذا جاء يوسف بن تاشفين وانتصرنا على النصارى فقد يأخذ هو الدولة منك، وينصب نفسه أميراً على الدويلة التي أنت فيها، فيسلب منك ملكك، فقال ابن عبَّاد كلمة مشهورة سارت بين الناس حتى وصلت إلينا، قال كلمة تدل فعلاً على استقرار عقيدة الولاء للمؤمنين في قلبه، قال: إن رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير.

أي: لئن أكون مملوكاً لـ ابن تاشفين أرعى جماله في الصحراء خيرٌ من أن أكون ممزقاً عند فرتلند وهو الفرس السادس أرعى خنازيره في قشتالة، وكان قد احتلها، وفعلاً جاء يوسف بن تاشفين وانتصر المسلمون في معركة مشهورة وهي معركة الزلاقة.

والتاريخ الإسلامي فيه عبرة يجب أن يدرس، ومقتضيات موالاة المؤمنين كثيرة، ونحن إذا انتقلنا إلى واقعنا فإننا سنجد أن ولاية المؤمنين ضاعت مقتضياتها بين المسلمين، فبالله عليكم هل يكون موالياً للمؤمنين من ظلم إخوانه المسلمين وخذلهم، ثم أقبل على الكفار يعاونهم وينصرهم؟