للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوفيق والإصلاح بين الاثنين]

من الإنجازات العظيمة -أيها الإخوة، وأقولها وأنا واثقٌ من هذه الكلمة- أن تؤلف أو توفق وتقرب بين اثنين متنافرين، لأن المسألة صعبة جداً، والله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:٦٣].

ولذلك المرتزقة الذين يقاتلون في كثيرٍ من الأصقاع ضد الإسلام أو في الصراعات التي تدور في العالم ليسوا بمؤتلفين، ربما لو أنه قُتل صاحبه في جانبه لا يتأسف عليه، لأن المهم أن يستلم الراتب في النهاية أو يستلم هذا الارتزاق الذي يزعمه، ولكن الأخوة في الله، والمجتمع المسلم، ليس فيه شيء من هذا.

أولاً: نجد في الإسلام أشياء تساعد على التقريب بين المتنافرين، مثلاً: وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه ليس من الإثم أن تكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فمثلاً: لو جاءك واحد وقال لك: يا أخي أنا هذا فلان أكرهه كرهاً شديداً، لماذا؟ قال: بلغني أنه قال في المجلس الفلاني عني: كذا وكذا.

بلغني أنه قال عني في المجلس الفلاني نقداً أو عيباً استهزاء وسخرية، يمكنك في هذه الحالة شرعاً، أن تقول له: وأنت كنت حضرت في المجلس؟ لا يا أخي ليس بصحيح، أنا كنت موجوداً في المجلس فلان صحيح تكلم بكلام لكن ما هو مثل الذي تقوله أبداً، يعني: كلام فيه شيء من النقد، لكنه شيء بسيط ما يذكر، هذا الذي أخبرك نمام، يريد الإفساد بينك وبين فلان، لا، أنا كنت موجوداً، وفي هذه الحالة ينبغي أن ننتبه لأمور: الأمر الأول: أن يكون الإنسان حكيماً عندما يكذب للإصلاح بين المتخاصمين، لأن بعض الناس مثلاً يُعاب في مجلس ويأتيه خمسة أشخاص يقولون له: فلان قال: إنك بخيل مثلاً، وأن القرش لا يخرج من جيبك بسهولة وأنك إنسان إلخ.

ليس من الحكمة هنا أن تقول: لا يا أخي أبداً ما ذكر كلمة بخيل مطلق، بالعكس قال: إنك كريم، الآن هذه الكذبة ليس فيها حكمة؛ لأن أربعة أو خمسة أشخاص يقولون ويؤكدون للشخص أن فلاناً قال عنه بخيل، وبعد ذلك أنت تقول له العكس تماماً برواية من طريقٍ واحد!! هذا ليس فيه حكمة أبداً، ولذلك نجد أن بعض المصلحين، أو الذين يحاولون الإصلاح، يزيدون الأمر تعقيداً، أو على الأقل أنهم يستثنون أنفسهم من الإصلاح، كيف؟ عندما تقول له: فلان ما قال عنك بخيل أبداً، ماذا سيقول في نفسه؟ يقول: إيه أنا أعرف شغلي مع فلان، لأنه يعرف أنك أنت الآن تريد الإصلاح، فإذاً لابد من الحكمة في الإصلاح بين المتنافرين، ولابد من الحكمة حتى في الكذب في الإصلاح، وليست كل كذبة صحيحة ودقيقة أو هي تكون بلسماً على الجرح، وإنما قد تزيد الجرح إيغاراً أو تعميقاً.

بعض الناس المصلحين بين المتخاصمين يزيد الطين بلةً أيضاً، بأشياء أخرى من الكلام، كلام سيء قيل عنه في مجلس، فقد يأتي واحد مصلح يريد الإصلاح لكن ليست عنده حكمه، فيقول: يفسر ويبرر بأسوأ وأسوأ يقول: أنا ما قصدت ربما قصدت كذا، وهذا القصد الثاني أطم وأعظم من القصد الأول، فأيضاً العلاج هذا غير نافع.

بعض الناس قد يلجئون إلى أساليب معينة خصوصاً في أوساط الطلاب، مثلاً: رتبا هذه الغرفة، وهذا إشراك الطرفين في أمرٍ واحد، ليس دائماً تهيئة للأجواء الطيبة، بل قد يكون الكره الذي بينهما شديداً؛ لدرجة لو أنك جمعتهما في مناسبةٍ واحدة لازداد الخطب وعظم، وكل واحدٍ منهما يكظم غيظاً وهو ساكت، ولكنه يغلي من الداخل، لأنه بقرب فلان، ولكنني أذكر لكم مثالاً واقعياً في طريقة حصلت لإصلاحٍ بين متنافرين كان لها أثر واقعي فعلاً: حصل بين زيدٍ وعمرٍ من الناس خصام وكره وبغض، فقال: المدرس لكلا الطالبين: ليأخذ كلٌ منكما سيارة الآخر، وفعلاً استجابا للطلب؛ لأنه من شخص أعلى منهما في المنزلة، فأخذ كل منهما سيارة صاحبه، هذا العلاج وهذه الوسيلة ليس فيها جمع للنقيضين في مكانٍ واحد، وطلب من كلٍ منهما أن يعمل نفس العمل، كلا، وإنما هو أن يشتركا في شيء، ولكن كل منهما بعيد عن الآخر.

أيها الإخوة! نحن نحتاج في علاج القضايا الشائكة إلى خبرة بالنفوس، وهذه الخبرة لا تأتي إلا بالممارسة والاحتكاك بالواقع، والمسألة تحتاج إلى قليلٍ من التركيز، وقليل من الانتباه -لا أقصد قليل، ربما أكون مخطئاً في التعبير- بل تحتاج إلى انتباه وإلى تركيز للاستفادة مما يدور، فالناس أصناف، وأنواع، بعضهم ينظر إلى الواقع، فيستشف منه أشياء ويربط ويحلل، وبعض الناس لا يهمه ماذا يدور في الواقع أبداً، يرى الناس يتخاصمون، ويفترقون ويجتمعون، ويتصالحون ويتنازعون، وهو بعيد عن النظر في المشكلات ومعرفة الأشياء التي أدت إلى التقارب والتنافر وهكذا.