للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاجتهاد في العبادة]

أما الاجتهاد في العبادة: فإن الاجتهاد فيها من سيماء الصالحين وصفات عباد الله المقربين، وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحوالاً عدة، فمن ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:١٥ - ١٦] بالإضافة إلى الصلاة والصيام: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:١٦].

وقال الله تعالى عن عباده الصالحين أهل الجنة: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:١٧ - ١٩].

والذي يطلع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين، والاجتهاد في العبادات فهو شيء يبعث على العجب والإعجاب، ويقود إلى الاقتداء من أصحاب النفوس السليمة، ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل أصحابه مرة فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا) وجب أن يجيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وأبو بكر لا يريد المفاخرة بالأعمال ولا الرياء (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).

وفي رواية: (ما اجتمعن في امرئ في يوم إلا دخل الجنة) فإذا كنا نستطيع في يوم من الأيام أن نصبح صائمين، ونتبع جنازة، ونطعم مسكيناً، ونعود مريضاً، فإننا في هذه الحال نشعر ولا شك بنوع من السمو في الإيمان والقوة في الدين بسبب اجتماع العبادات والاجتهاد فيها، ولا شك أن الصديق لما سئل لم يكن مخططاً بأن يقوم بهذه الأعمال من أجل السؤال، وإنما كان ذلك يوماً طبيعياً عادياً من أيام الصديق، وما سبق الصديق الأمة وكان في الفضل بعد نبيها إلا بأشياء من هذا القبيل، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى، يجتهدون في العبادة ويملئون أوقاتهم بها، وهذه عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف، ومنهم حماد بن سلمة على سبيل المثال، قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، فهو بالغ للغاية والنهاية في أعمال البر والعبادة، ولا يستطيع المزيد، لأنه مشبع، ويومه مشبع بأوقات الطاعات والعبادات.

ومن الأمور -كذلك- التي تدل على أن السلف رحمهم الله كانوا مجتهدين في العبادة، ما نقرأ في سيرهم أنهم كان لهم سبع من القرآن يختمونه كل يوم، هذا حال الصحابة يختمون القرآن في أسبوع سبعة أقسام معروفة، وكانوا يقومون الليل وحالهم معروف في قيام الليل وقراءتهم للقرآن القراءة الكثيرة المتواصلة، حتى إن بعضهم ربما إذا أصبح رفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى الجسم من طول القيام، وكانوا يقومون الليل في ليالي الغزو، ففي الصباح قتال وفي الليل صلاة وقيام، يذكرون الله ويتهجدون، حتى في السجن لو أدخلوهم قاموا يصلون، يصفون أقدامهم، وتسيل دموعهم على خدودهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.

يخادع أحدهم زوجته، كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام، وكان بعضهم يقسم الليل على نفسه وأهله، فيوقظ بعضهم بعضاً متتابعين للصلاة، ونهارهم في الصيام، والتعلم، والتعليم واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وقضاء حوائج الناس.

إذاً: أوقاتهم كانت مملوءة بالطاعة وهذا شيء مهم جداً أن تكون الأوقات ممتلئة بالطاعة، لو حصل هذا لو صلنا إلى مراتب عليا، ولوصلنا إلى منازل في غاية الرفعة والسمو، وكان بعضهم يُنفق على عيال أخيه بعد موت الأخ لسنوات، فهؤلاء الذين كانوا يراعون جميع الجوانب من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وعبادة وصلاة وقيام، وأمور اجتماعية كالإنفاق على المحتاجين وغيرهم، هؤلاء هم أهل الجنة فعلاً.