للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قدوم سعد بن معاذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم]

قال أبو سعيد: فلما طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم - طلع عليه سعد بن معاذ محمولاً- قال: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) وهنا -أيها الإخوة- نقف وقفة فقهية، اشتهر هذا الحديث بلفظ (قوموا إلى سيدكم) وهذه الزيادة جاءت في طرق قليلة، زيادة (فأنزلوه) ومن هذه الطرق طريق أحمد الذي نحن بصدده الآن والذي سنده جيد.

قال ابن كثير في البداية والنهاية: أمر عليه الصلاة والسلام من هناك من المسلمين بالقيام له، قيل: سبب القيام لينزل من شدة مرضه، لأنه لا يستطيع أن ينزل لوحده، فلا بد أن يقوم له أناس وينزلوه، وقيل: توقيراً له بحضرة المحكوم عليهم ليكون أبلغ في نفوذ حكمه.

السبب الثاني للقيام: أنه ربما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم هؤلاء الناس حتى يُظهر مكانة سعد، فعندما يحكم سعد يكون حكمه نافذاً، فقال: أنزلوه فأنزلوه، قال الشيخ/ ناصر في تعليقه على هذا الحديث في السلسلة الصحيحة في المجلد الأول: اُشتهر رواية هذا الحديث بلفظ: (لسيدكم) أي: قوموا لسيدكم، والرواية في هذا الحديث كما رأيت (إلى سيدكم) ليس (قوموا لسيدكم) وهناك فرق بين (قوموا لسيدكم) و (قوموا إلى سيدكم).

ولا أعلم للفظ الأول أصلاً (قوموا لسيدكم) وقد نتج منه خطأ فقهي وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطال وغيره، واشتهر الاستدلال بالحديث عموماً (قوموا لسيدكم) على مشروعية القيام للداخل، فإذا تأملت السياق تبين لك أنه استدلال ساقط لوجوه أقواها قوله: (فأنزلوه) الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: قوموا لمجرد القيام، قال لهم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) نصٌّ قاطع على أن الأمر بالقيام لأجل إنزاله لكونه مريضاً، قال الحافظ: وهذه الزيادة (فأنزلوه) تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المنازع فيه، وقد احتج به النووي كما في كتاب القيام، وكل من الفقهاء يصيب ويخطئ، ونحن ندور مع الدليل حيثما دار.

إذاً: القيام ينقسم إلى ثلاثة أنواع: ١ - قيام إليه، قيام الرجل إلى الرجل.

٢ - وقيام له.

٣ - وقيام عليه.

فأما القيام له: قيام الرجل للرجل إذا دخل واحد المجلس قام الناس يسلمون عليه ويرحبون به، هذا القيام للداخل، ممنوع شرعاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) حديث صحيح.

وما كان قوم يحبون صاحبهم كحب أصحاب محمد محمداً، ولكنهم كما ثبت عنهم في الحديث الصحيح أنهم كانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، هل هناك أعظم من الرسول؟ هل هناك أعلم من الرسول؟ لا.

مع ذلك كان الصحابة لا يقومون للرسول إذا دخل عليهم، فلذلك الآن لا ينبغي القيام للداخل إذا جاء يسلم بل يسلم الناس عليه قعوداً لهذه الأحاديث التي عرفتموها الآن، ومن احتج بحديث سعد (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) فالرد عليه من وجهين أو أكثر.

الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (قوموا إلى سيدكم) ولم يقل قوموا لسيدكم.

الوجه الثاني: أنه قال: (فأنزلوه) ولم يقصد القيام مطلقاً.

فإن سألتني: ما هو الفرق بين (قوموا له) (وقوموا إليه)؟ ف

الجواب

أن القيام للشخص إذا دخل عليك وقمت له كما يفعل كثير من الناس اليوم، فهذا هو الممنوع، أما القيام إلى الرجل فهو أن تقوم للشخص الداخل لتفتح له الباب مثلاً، أو تأخذ له طريقاً في البيت حتى يدخل مثلاً، أو أن يكون الرجل قادماً من سفر فتقوم إليه لتعانقه، لأنه لا يمكن أن تعانقه وهو قائم وأنت جالس، لا بد أن تقوم إليه لتعانقه وهو قادم من السفر، فهذا يسمى: القيام إلى الرجل، وكذلك قيام المرأة إلى المرأة، أما الأول الذي يحصل في المجالس اليوم فيسمى القيام للداخل وليس إلى الداخل.

إذاً: إذا قمت إلى الداخل فقيامك صحيح مشروع بأدلة، منها: فعل طلحة بن عبيد الله في حديث توبة كعب بن مالك في البخاري ومسلم أن الراوي قال: [فقام إليه طلحة] طلحة لما دخل كعب المسجد، قام طلحة ليمشي إلى كعب ليهنئه بالتوبة، فقام إليه ولم يقم له.

وأما القيام عليه وهو النوع الثالث فهو محرم أيضاً، وهو قيام العبد على رأس سيده، أو الموظف على رأس رئيسه، يقوم عليه مثل الصنم أو التمثال؛ لأن هذا فيه زيادة تعظيم غير مشروعة، ولا ينبغي القيام إلا لله عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦]، ولا أقصد وقوف العارض، كأن يأتي يعطي معاملة لرجل فيقف عنده حتى ينتهي، لا، إنما أقصد قيام التعظيم، رجل يقف هكذا مثل الصنم، فهذا لا يجوز، إلا كما ورد في استثناء قيام الناس أو المسلمين على رأس خليفتهم أمام الكفرة؛ حتى يظهروا للكفار عظمة خليفة المسلمين كما فعل الصحابة وهم واقفون على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أمام الرجل الكافر.

هناك فتوى لـ شيخ الإسلام رحمه الله لما سئل عن القيام للداخل؟ فقال: أن الأصل عدم القيام، ولكن لو أن الرجل من الناس خاف، إذا دخل رجل ولم تقم أن يكون عدم قيامك سبباً في إيقاع العداوة والبغضاء بينك وبينه، يقول شيخ الإسلام: فإذا خشيت وقوع العداوة والبغضاء بينك وبين هذا الرجل فإنك تقوم اضطراراً وليس اختياراً، من باب الضرورة، مثل: أكل الميتة في الصحراء، ومن باب ارتكاب أدنى المفسدتين، قيامك له مفسدة لا يجوز، وعدم القيام إذا كان سيأخذ عليك في نفسه وتقع العداوة والبغضاء بينك وبينه مفسدة أكبر فيها تفرقة بين المسلمين فعند ذلك تقوم له، ولكنك تعلمه السنة بأنه لا ينبغي القيام.

مراعاة أحوال الناس مهمة، تطبيق الأحكام الشرعية يجب أن يكون من حال الناس وواقعهم، ولا يصح أن يكون تطبيق الأحكام بعيداً عن أحوال الناس، ولذلك كان من القواعد الأصولية المهمة أن الفتوى تتغير باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة والعوائد والنيات.