للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق]

أما عقوق الوالدين فهو شنيع شنيع شنيع، وإيذاء الوالدين من أعظم الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من لعن والديه) ولو بطريق غير مباشر؛ كأن يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه، فيكون هو المتسبب في إعادة اللعنة والسب على أبيه وأمه؛ لأنه عندما سب أبوي الآخر أخذت الآخر العزة بالإثم فسب أبويه، فهذا الساب أعاد السب على أبويه بسببه هو.

وبعض الناس لا يكتفي بالعقوق أو معصية الأبوين، وإنما يجاهر بالسوء والفحشاء، فيقنط ويقهر أبويه، ويرفع الصوت ويتأفف، ويقول لأحدهما: أراحنا الله منك، وأخذ بعمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس! ويا عجوز الويل! وحاله وحال أبيه كما قال الشاعر:

أريد حياته ويريد موتي

وربما يصل العقوق إلى درجة أن يتمنى الوالد أنه لم يلد له هذا الولد، وربما لو كان عقيماً كان أحسن، وقد ينهب بعضهم مال أبيه، وربما طرد أباه من البيت، ويمنع عنه النفقة، وقد يلطمه، وقد يحجر عليه، وقد يقول لأبيه: قد أخذت حقك، واستوفيت أجلك، وسئمتك الحياة، وملَّك الزمان، يا ليتك تموت ولم تحمل.

قال الحسن: انتهت القطيعة إلى أن يجابي الرجل أباه عند السلاطين.

أي: يخاصمه في المحاكم، وخصوصاً إذا كان بغير حق، وهذا العقوق لو صادف دعوة من الأب أو من الأم على الولد فإن دعاء الأب على ولده ودعاء الأم على ولدها مستجاب، ما بينها إلا مسافة تقطع في لمح البصر، تصعد دعوة المظلوم إذا كان أباً أو أماً إلى السماء، فيجيب الله عز وجل.

ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب لا ينفك عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراتهم، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد له في العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام؛ ألح على ابنه في النصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام، فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:

يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض البسيطة من قرب ومن بعد

إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد

هذا منازل لا يرتد من عقق فخذ بحقي يا رحمان من ولدي

وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد

فقيل: إنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الوالد على ولده) (ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده) حديثان صحيحان، فيستجاب دعاء الأب والأم على الولد أو للولد، فكن باراً تنل دعوة مستجابة، ولا تكن عاقاً فتنل دعوة عليك مستجابة، والذي يعق والديه لا شك أنه لا يقدر ما حصل منهما تجاهه، وليس عنده عرفان ولا شكر جميل ولا اعتراف بالنعمة، كما قال أحد الآباء معبراً في عتاب ولده:

غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أحنو علي وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل

ليتك فعلت مثل الجار، لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعت، هذا لو أن إنساناً فارق أباه وذهب عنه.

بعض الأبناء والأولاد لا يقدرون مشاعر الأبوين إذا سافر الولد، مع أنه يعتري نفوسهما كثير من الأثر النفسي؛ لأن الولد له فنون وأصدقاء وعالم آخر، فهو يذهب ويسافر ولا يفكر في استئذان أبويه:

لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعت أبويه بعد فراقه

أم تهم بوجده حيرانة وأب يسح الدمع من آماقه

يتجرعان لبيِّنه غصص الردى ويبوح ما كتماه من أشواقه

ذرفا لأم سل من أحشائها وبكى الشيخ هام في آفاقه

ولبدل الخلق الأبي بعطفه وجزاهما بالعدل من أخلاقه

ونحن الآن مع قرب قيام الساعة زيادة في عقوق الأبناء لآبائهم، فيقدم رجل زوجته على أبيه وأمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولكن اعلموا أن هذه المسألة دين ووفاء، وأن من عق أباه وأمه أرسل الله عليه من أبنائه من يعقه ويعاقبه، كما ذكر أن عاقاً كان يجر أباه برجله إلى الباب، فعاقبه الله بأن كان له ولد يجره برجله إلى الشارع، فيقول الأب: حسبك! ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فيقول الولد: هذه الزيادة صدقة مني عليك.

وبعضهم يتكبر على أبويه خصوصاً إذا كان صاحب شهادة علمية أو جامعية، والأب فلَّاح أو فقير أو عامي أو أمي ومثل ذلك، ولما جاء رجل من الخارج معه شهادة عليا وجاءه أصحابه يزورونه في البيت في بلده، وكان أبوه مزارعاً فقيراً، وهيئته هيئة فلاح فقير، فلما دخلوا عليه في البيت خجل أن يقول لهم هذا القروي هذا أبي، فقال: هذا خادم عندي.

وهذا إنسان -هذه قصص واقعية- أخذ من أمه عشرين ألفاً لم يرجعها، والثاني أخذ اثنا عشر ألفاً ولم يرجعها، فلما طالبت الأول قال: أنتِ سكنتِ في البيت عندي ثلاث سنوات تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً هذه إيجار ثلاث سنوات ونفقة الأكل والشرب.

وهذه بنت تطلب منها أمها نقوداً، تقول: لا أعطيك، ولو سألتيني مرة ثانية لا أدخل بيتك.

ولذلك يروى في الأمثال ما يقارب القصص والأخبار أشياء من الأمور المعبرة: هذا رجل متزوج قالت له زوجته: لا بد أن تذهب بأبيك خارج البيت، لا نستطيع أن نتحمل هذا الطاعن في السن هذا أخلاقه لزقة هذا وهذا، لا بد أن تخرجه، فهمّ أن يخرج به إلى كهف ومغارة ويضعه هناك، فأخذ الزوج أباه الطاعن في السن، وفي الطريق قال الأب لابنه: أتطرحني في الكهف وهناك برد، هلَّا أتيت لي بلحاف، وكان لهذا الابن ابن وهو حفيد الجد المأخوذ إلى الغار، فقال الأب لولده الصغير: اذهب وهات لحافاً لجدك، وكان هذا الولد الصغير ذكياً، فذهب وجاء بنصف لحاف، فأعطاه لأبيه، وقال: هذا لجدي الذي طلبت، فقال: هذا نصف لحاف، فأين النصف الآخر؟ قال: خبأته لك يا أبي.

وهؤلاء المتزوجون لا يحترمون أمهاتهم في كثير من الحالات، فتراه يبتعد عن أمه، مع أنه قد لا يكون له حاجة للذهاب، وإذا سألته: إلى أين تذهب؟ قال: مالكِ؟ ماذا تريدين؟ ونهرها، ولا يأتيها ولا يسألها ولا يقول: ماذا في خاطرك؟ وماذا تريدين؟ ولا يبدي استعداده لعمل الأشياء لها.

هؤلاء الذين يخرجون من البيوت ينشغلون بزوجاتهم، ويبتعدون عن آبائهم وأمهاتهم وتحس الأم بفراغ كبير من جهة ولدها، وتحس بأن الزوجة قد أخذت ولدها عليها بالكلية، وهذا يسبب الغيرة بين الأم وزوجة الابن.

ومجتمعنا فيه آفات وشرور كثيرة، وبعد الناس عن الدين سبب مآسٍ، تقول إحدى الأمهات: إني أصيح عند ربي، وربما يصل الحال بي من عقوق ولدي أن أدعو على نفسي وعلى بطني الذي حمله وعلى الثدي الذي أرضعه، قالوا لي: اشتكي عند الجهات الرسمية يسحبون جوازه، وأنا لا أريد لولدي الفضيحة، لكن لا يسأل عني وراتبه كبير، وبالشحاذة أخرج منه بمائة ومائتين، وإذا كلمته عن السفر إلى الخارج للعلاج، قال: أنت رجعية.

تقول: جلست في المستشفى ثمانية أيام لم يسأل عني إلا مرة، ويكذب علي، تقول: أنا يمكن أقف أمام الله وأصيح وأطلب ربي وأدعو عليه دعوة لا يردها الله، لكن لا أريد الضرر لولدي ولا الأذية، وعنده زملاء في العمل عندهم عوائل يسافرون إلى الخارج، أمه تقول: انظر إلى أقربائك المستقيمين يقول: لا تقولي: انظر إلى فلان وفلان، كل واحد له طبيعته، تقول: تعبت عليه وربيته وهو الآن يغلق الباب ويمشي إذا ما أعجبه الكلام.

وهذه تقول: ولدها لا يصلي ويسكر، ويرفع يده على أمه وهي ربته وتعبت عليه، وهو يتيم وأنفقت عليه ولا يعطيها قرش واحد، ويصرف راتبه على أصحاب السوء وفي المخدرات.

وبعضهم لا يكون عنده لطافة ولا حسن أدب حتى في الاتصال بأهله، فيجعل زوجته تذهب إلى بيت أبيه وتزورهم بالنيابة عنه، وتتصل عليهم بالهاتف، وتقول: خذ كلم أباك.

لا نريد -يا أيها الإخوة- أن نكون مثل الكفار الذين اشتدت عندهم المآسي من هذا النوع، وتقرأ: هذه قتلت أباها، وهذه طعنت أمها عدة طعنات، حتى ظنت أنها ماتت وأخذت النقود وهربت مع عشيقها، أولئك الكفرة وضعوا آباءهم وأمهاتهم في مصحات ودور الرعاية، حتى صار الحال أن يفتخر الأب أمام الآباء الآخرين في دار الرعاية أن ابنه يزوره مرة في الشهر، وأنه إذا ما استطاع أن يزوره مرة في الشهر يتصل به هاتفياً.

وذلك الذي رضي بعد التوسل أن يبقي أمه عنده شريطة أن تعمل في كنس البيت والزبالة وجلب الأغراض للمنزل، ويعطيها أجرة مقابل خدمة السكن.

وأنتم تسمعون عن الجرائم الكثيرة التي تحصل، ومنها: من قتل أمه واستعمل سكيناً، أو استعمل قالباً من الأسمنت، وتعاون على قتلها هو وزوجته، وغير ذلك من القصص في الواقع؛ لأننا نحن نقلد الكفرة ونسير وراءهم حذو القذة بالقذة، وينبغي أن ينتبه حتى الشباب المتدين إلى برهم بآبائهم وأمهاتهم، فبعضهم يستخدم الشدة في الكلام، وصفق الأبواب، ورفض الخدمة وجلب الأغراض، فضلاً عن أولاد السوء الذين يعملون أكثر من هذا بكثير كما ذكرنا.

وبعض الأولاد يقاطعون آباءهم لأمورٍ دنيوية، فإذا رفض الأب أن يشتري له سيارة فإنه يقاطعه ولا يكلمه.