للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تربية الآخرين وإهمال النفس]

السؤال

إنني أحس بنفسي أنها كالشمعة تحرق نفسها، وتنير لغيرها، فأقوم بالدعوة إلى الله؛ ولكن أهمل تربية نفسي، فماذا أفعل؟

الجواب

لقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل هذا حاله، فقال الناس: مثل الذي يعلم الناس وينسى نفسه، كالشمعة، تحرق نفسها وتضيء للآخرين.

فإذاً: ينبغي على الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يهتم بنفسه، ولا يجعل كل الوقت للآخرين، (إن لنفسك عليك حقاً) فمن أين تدعو؟! تدعو لأي شيء وأنت لا تتعلم المنهج؟! وتربي الناس على أي شيء وأنت ليس عندك علم؟! وكيف تكون مؤثراً وقلبك خاوٍِ من أنواع الإيمانيات الناتجة عن العبادات؛ لأنه ليس عندك وقت تعبد الله فيه؟! كيف؟! (إن لنفسك عليك حقاً) في تربيتها، ودعوة نفسك إلى الالتزام بالأحكام الشرعية، والقيام بالعبادات، والتعلم، حتى تستطيع أن تمارس الأدوار الأخرى.

فلا بد أن يكون هناك توزان؛ لأن بعض الناس يقول: أنا أعتزل الناس عشرين سنة أقرأ وأقرأ وأعبد الله حتى أتقوى ثم أخرج إلى الناس، نقول: ما عندك وقت، ربما تموت قبل هذا.

فلا بد أن يكون عندك نصيب دائم من طلب العلم، ومن الدعوة إلى الله، ومن القيام بالعبادات، ومن تربية الآخرين، عمليات مزدوجة، وعمليات آنيَّة مع بعض، تقوم في وقت واحد، فيمكن أن الإنسان قد يهتم ببعض الجوانب أحياناً في وقت معين، مثلاً يذهب إلى مكة في العشر الأواخر، يقوم بالعمرة ويعتكف، فهو الآن بعيد عن الناس من أجل الاعتكاف، هذا أمر طَيِّبٌ! ليس فيه إشكال، ما اعتكف الدهر، ولا اعتكف سنين وترك الأمة، وترك المجتمع في المستنقع، وإنما هو يعطي نفسه ويكوِّن لها محطات يتزود بها من الوقود الإيماني والعلمي، ويمكن أن يتفرغ -أحياناً- لطلب العلم، مثلاً في إجازة من الإجازات، يأخذ له أسبوعاً -مثلاً- يرحل إلى أحد العلماء، ويجلس عنده، ولكنه لم ينسَ المجتمع، ولم ينسَ أهله ولا أقرباءه ولا جيرانه ولا جماعة مسجده، وأهل حيه، ولا طلابه، ولا قرناءه وزملاءه في الوظيفة والدراسة، بل إنه على اتصال، وإذا انقطع أياماً من أجل اعتكاف أو رحلة لعالِم، فهو لا زال يزاول عمله بعدها مباشرة، وهو في يومه يعبد الله، ويقرأ، ويدعو، ويربي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا؛ فقد كان قائداً للدولة، وزوجاً، وكان أباً حنوناً، تذرف عينه من الدمع على ولده إبراهيم لما مات، وكان معلماً، يشاهد رجلاً يقول في الصلاة: ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ ما لكم تنظرون إلي؟ فيعلمه، فيكون أحسن معلم، لم يُرَ مثل تعليمه قط، وقائداً عسكرياً يخوض غمار الحروب، ورجلاً محنكاً سياسياً في صلح الحديبية وفي غيرها، وفي كتابته للأقوام الأخرى ولكسرى ولهرقل، يكتب إليهم الرسائل يدعوهم إلى الله، ويخطِّط للدعوة، ويرسل ناساً إلى الحبشة، ويرسل ناساًَ من الذين أسلموا في مكة إلى قبائلهم، يعيدهم إلى قبائلهم صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يلاطف الصغير، ويقول: (يا أبا عمير! ما فعل النُّغَيْر) ويرحم الكبير، ولما جاء أبو قحافة وقد علاه الشيب، أراد عليه الصلاة والسلام أن يوقره، وأمرهم بتغيير شيبه، حتى يكون على وضع أحسن وأمثل، وكان قدوة عليه الصلاة والسلام، وكان إماماً في المسجد، ويخطب الجمعة بالناس.

إذاً: المسلم يقتفي أثر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأغلب الانحرافات عند الشباب تنشأ من نزعات مثل هذا، يقول: أنا أريد أطلب العلم، وما لي علاقة بالناس، أو أنا داعية، نذرت نفسي للدعوة، ما عندي وقت أعبد الله، ولا نوافل، أنا أقوم بأشياء، ومن هنا تنشأ الانحرافات من هذه النزاعات.

يقول: لا شك أن الدعاة والعلماء هم قادة هذه الأمة، وعليهم مسئولية عظيمة، ولا شك أن ما أصاب هذه الأمة حالياً بسبب بعدها عن الله سبحانه وتعالى، وانعدام التربية بين أفرادها، وفي هذه الأيام تحدُث أمورٌ عظيمة، تُذْهِب عِزَّ هذه الأمة، فلا بد من تبيين هذا للناس واستغلال الفرص، ولا شك في ذلك، وكل واحد منا عليه واجب في هذا الأمر.