للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كفارة اليمين وأحكامها]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم.

ولما كان أمر الحلف بالله عظيماً فقد شرع الله تعالى صيانة لجنابه عز وجل، واحتراماً للحلف به، أوجب الكفارة على من يخالف الأمر الذي حلف عليه ويحنث في يمينه، فقال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:٨٩] كلها بمنزلة واحدة، أنت مخير بين الإطعام أو الكسوة أو عتق رقبة، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة:٨٩] فمن لم يستطع الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة، فينتقل إلى الدرجة الثانية من الكفارة وهي صيام ثلاثة أيام، وهو مخير إن شاء أطعم وإن شاء كسا، فإن أطعم خمسة وكسا خمسة أجزأ ذلك باتفاق العلماء، ويشترط لمن يطعمهم أو يكسوهم أن يكونوا: أولاً: فقراء، فلا يجوز إعطاء الطعام الغني أو كسوة غني والفقير هو الذي لا يجد حاجته، ولا يجد ما يسد خلته وعوزه.

ثانياً: أن يكون من المسلمين بعض الناس يخرج كفارة فيلقى أقرب عامل بلدية في الشارع ويعطيه وهو لا يعرف إن كان هذا الرجل بوذياً أو هندوسياً أو مسلماً أو نصرانياً، فلا بد أن يتحرى لمن يعطي الكفارة، فيجب إعطاؤه للمسلمين.

ثالثاً: أن يكون هؤلاء قد أكلوا الطعام، ما معنى أكلوا الطعام؟ أي: أن يكونوا في سن يأكلون فيه الطعام، فمثلاً: لو وجدت عائلة فيها عشرة أشخاص كباراً فقراء، فيجوز إعطاؤهم الكفارة، لكن لو كان أحدهم طفلاً رضيعاً صغيراً، عمره شهر لا يأكل الطعام وإنما يرضع، فعند ذلك تكون قد أعطيت الكفارة لتسعة فقط والعاشر لا بد أن تبحث عنه حتى تكمل العشرة، فلا بد أن يكونوا قد أكلوا الطعام؛ لأن الله قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:٨٩].

وكذلك يتصدق الإنسان بحاجة الفقير ما يشبعه غداءً أو عشاءً، ما يشبع شخصاً واحداً، يتصدق على عشرة أشخاص بما يشبعهم، وليست صدقة وإنما هي كفارة، تجب عليه وجوباً وليس مخيراً فيها.

ويجوز أن يكون العشرة في عائلة واحدة أو في عدة عوائل، ويستحب طبخ الطعام لهم حتى لا يجدوا عناء في طبخه، ويجوز إعطاء الفقير الواحد حظه من كفارتين، لكن لا يجوز إعطاء طعام العشرة لشخص واحد أو لخمسة أشخاص، الكفارة الواحدة يجب أن تصرف لعشرة مختلفين، لكن لو كان عندك ثلاث كفارات فيجوز أن تعطي فقيراً واحداً ثلاثة أنصبة: الأولى عن الكفارة الأولى، والطعام الثاني عن الكفارة الثانية، والطعام الثالث عن الكفارة الثالثة لشخص واحد، أما لو كانت كفارة واحدة فيجب أن تبحث عن عشرة مختلفين لتعطيهم، ولا يجوز أن تعطي الواحد أكثر من نصيبه من الكفارة الواحدة.

وكذلك فإنه لا يجوز إعطاؤهم نقداً وإنما يجب إطعامهم طعاماً؛ لأن الله نص عليه فقال في القرآن: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:٨٩] ولم يقل: التصدق على عشرة مساكين، وإنما قال: فإطعام فلا بد من الالتزام بالنص والوقوف عنده وإعطائهم طعاماً، وقد يكون رب الأسرة بخيلاً، فيأخذ المال إليه ويحرم عياله من الأكل، أما عندما يكون الطعام مطبوخاً فماذا سيفعل به؟ لا بد أن يطعمهم إياه، ثم إن الله جعل للنقد مصارف أخرى على الفقراء وهي الزكاة، فلا حاجة لجعل كفارة اليمين نقداً وقد جعل الله أبواباً أخرى فيها النقد وهي زكاة الأموال.

وكذلك -أيها الإخوة- لا يجوز الانتقال من الإطعام إلى الصيام إلا بعد العجز عن الإطعام، فبعض الناس يقول: أنا أريد أن أوفر على نفسي، لماذا أخرج طعاماً لعشرة أشخاص بمائة ريال كل واحد أشتري له طعاماً بعشرة ريالات مثلاً وتكلفني مائة ريال؟ سوف أصوم ثلاثة أيام أرخص لي! هذا لا يجوز، لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:٨٩] فعلَّق الصيام على عدم الوجود، سواء عدم وجود الفقير، أو عدم وجود المال الذي تشتري به الطعام، أو عدم وجود الطعام لديك، فكثير من الناس يصومون ثلاثة أيام وهو يستطيع أن يطعم، هذا غير جائز ومحرم ولا تقبل كفارته، ولا بد أن يعيدها، فإن عجز فعند ذلك ينتقل إلى الصيام.

انظروا -أيها الإخوة- هذه الآلاف الأيمان التي تنطلق من الناس يومياً ليست سهلة، وإنما فيها أحكام كثيرة، وفيها كفارة، تصور اليوم كم من المسلمين يهملون في هذه القضية العظيمة! وكم من الآثام تتراكم فوق ظهورهم وهم يحلفون بالله مستهينين به عز وجل ليلاً ونهاراً، في الأمور الحقيرة وغيرها! وفقنا الله وإياكم لهدي كتابه والالتزام بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والوقوف عند حدوده عز وجل، وتعظيمه حق العظمة، التي هو لها أهل سبحانه وتعالى.

واعذروني في إطالتي أيها الإخوة، ولكن انتشار الموضوع عند الناس اليوم وخطورته تستوجب ما قلنا وأكثر من هذا، نسأل الله المغفرة في التقصير.

وصلى الله على نبينا محمد.