للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضييع الأوقات]

ثم -أيها الإخوة- من الأشياء التي نعاتب أنفسنا فيها جداً: قضية تضييع الأوقات، وتضييع الأوقات قد صار شعاراً لكثير من الناس، يضيعون الأوقات في التوافه، مع أن الوقت هو مخلوق لكي نملأه بالطاعات: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:٦٢] فالله جعل الليل والنهار لكي نملأه بالطاعات: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:٦٢] الليل وراء النهار والنهار وراء الليل، يختلفان لكي نعمرهما بالطاعات، فماذا فعلنا في ذلك؟ قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه.

كان هذا سيماهم رحمهم الله تعالى، يستغلون الأوقات بالعبادات أولاً، وبطلب العلم، يقول الرقاق: سألت عبد الرحمن بن أبي حاتم عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالته لأبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه، يستغل كل وقت وكل دقيقة يقرأ على أبيه ويستفيد منه ومن علمه، والآن تضيع الأوقات فلا طلب علم ولا شيء، ويصبح الجهل متفشياً.

الشباب كانوا في سفر فجاءوا وقت صلاة المغرب لجمع المغرب مع العشاء فاختلفوا: هل تقصر صلاة المغرب أو لا؟ ثم استقر الرأي على أن تقصر وصلوا المغرب ركعتين، كيف يكون هذا؟ هذه من أبسط الأشياء، قصروا المغرب وصلوا ركعتين.

وآخرين نزل المطر في جماعة في مسجد صلوا ركعتين في البلد، جمعوا وقصروا في المطر في البلد.

وآخرون تأخر الخطيب فصلوا ظهراً أربع ركعات مباشرة، واحد يمسك مصحف ويخرج على المنبر ويقرأ آيات، يقول الشافعي: يقرأ آيات ويدعو.

ما أحد يحسن أن يفعل هذا؟ ما أشد جهل الناس، وما أجبنهم في الحق! ولكن إذا صارت الدنيا قام كل واحد ينافح عن ماله وعن نفسه.

فتضييع الأوقات بالأشياء التافهة، حفظ القصائد والأشعار ليست من الملح، كان بعض المحدثين يختم حلقته بملحة أو بطرفة، لكن اليوم صار كل الحلقة وكل المجالس في طرف ونكت وفوازير وصوت صفير البلبلِ، وهذا شغلهم عن حفظ الأهم، وليس أنهم يحفظون ليتهم يحفظون متوناً في طلب العلم أو الحديث أو الفقه، ونحو ذلك.

صارت الأوقات تضيع بالخلطة وكثرة النوم والسهر على غير منفعة، وكثرة الكلام وهكذا، وتضيع أيضاً بطلب الدنيا، هذا معجب بالكفار، وهذا ينزل قبل الدوام ويطلع بعد الدوام بساعات ويفخر بأنه نشيط في العمل، ونحو ذلك: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب، لا نقل: تأخر عن الدوام، واخرج قبل الدوام، لا.

اجعل راتبك حلالاً لكن أن تكون عبداً للدنيا، تخرج من الصباح ولا ترجع إلا في الليل، وأعمال إضافية ما هذا؟ وكذلك هذه الزيارات الفارغة التي ليس فيها ذكر لله تعالى، مجالس ليس فيها صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حتى كفارة المجلس، تضيع الأوقات بمرور هذا على هذا وهذا على هذا وجلوس هذا عند هذا والإسراف بالمال في الاهتمام بالمظهر وإنفاق الأموال فيه.

ونجد عندنا كذلك مقابل الإسراف البخل بالصدقة، لو دعا داعي الصدقة تصدقنا بريالات، لكن لو دخل الواحد منا مطعماً أنفق العشرات، لا يحاسب نفسه عند الإنفاق في سوق ونحوه على ما ينفقه من المبالغ، لكن إذا أتت الصدقة وأخرج من جيبه بالغلط عشرين أرجع واحدة ووضع واحدة.

فنحن عندنا إذاً -أيها الإخوة- شيء من البخل والشح ينبغي أن نحاسب أنفسنا عليه.

عندنا توسع في الترفيه يصل إلى استخدام الأشياء المحرمة، عندنا مجاراة للأهل والأولاد إذا طلبوا منا أشياء محرمة كأنواع من الأفلام أو الألعاب المحرمة، إذا اشتهى شيئاً أعطيناه إياه، وجلبناه له، عندنا محبة للراحة والدعة والكسل، وانقلبت نقاشاتنا من أشياء مفيدة في طلب العلم إلى أشياء فيها أنواع من المباراة والمجادلة، لا يوجد شيء مبني على قراءة كلام العلماء، وإنما قضية ظنون وآراء شخصية.

وكذلك فإننا نعاني من إنفاق الأموال في غير طاعة الله، والسفر إلى بلاد الكفار في السياحة، صار هذا ديدن كثير حتى من المنسوبين إلى الخير، يسافر في السياحة إلى بلاد الكفار، لا ضرورة ولا حاجة شرعية، لو أنه يقيم فيها هارباً مثلاً، أو يقيم فيها مؤقتاً للحاجة كعلاج أو نحوه لقلنا: ذلك متوجه، لكن يذهب للسياحة وإنفاق الأموال، وهو لا يعطي في سبيل الله إلا النزر اليسير، فهل يكون هذا شأن المسلم الجاد؟! وكذلك فإننا نحتاج إلى سؤال أنفسنا عن هذه الأموال التي ننفقها من أين اكتسبناها وفيم أنفقناها؟ ونحن من خلال عرض هذه الأشياء -أيها الإخوة- لا نريد القول بأنه ليس في أحد خير، كلا والله، بل إن هناك كثيراً من الناس واقعهم طيب، وكثيراً من المجالس فيها خير كثير وفيها ذكر وعلم، وهناك كثير من الناس يبذلون في سبيل الله ويعطون وينفقون، وآخرون من المسلمين حريصون على طلب العلم، ويجتهدون فيه، ويحفظون القرآن، ويحفظون من السنة، ويحفظون متون العلماء أشياء لا بأس بها، وهناك الكثيرون عندهم سخاء وعندهم حسن خلق وعندهم تعهدٌ لأولادهم وبعضهم أنجز إنجازات كبيرة جداً في بيوت من إخلائها من المنكرات، أو من جمع الأهل على طاعة الله، ونجح بعض الدعاة إلى الله في تغيير بيوت وليس بيتاً واحداً، وأثروا في جيرانهم وأهل حيهم، وجماعة مسجدهم، بل وصل بهم الأمر لتعدي النفع إلى البعيدين من مراسلة هؤلاء الذين يرسلون بالرسائل التافهة إلى ركن المعرفة أو التعارف في المجلات، فأرسلوا لهم الكتب النافعة، والأشرطة الطيبة، وصار ذلك من أسباب هداية الخلق ممن كانوا بعيدين عن شرع الله.

أقول: إن هناك خيراً ولا شك من ذلك، ولا يمكن أبداً أن يكون الكلام السابق معناه الخروج بنظرة سوداوية عن الواقع، كلا والله، بل المقصود -أيها الإخوة- أن نعاتب أنفسنا، والإنسان إذا عاتب نفسه ذكر معايبها، ليست القضية الآن تقييماً للواقع، كان الكلام هو بعنوان: تعالوا نعاتب أنفسنا، أي: عن التقصيرات الموجودة عندنا، إذاً نحن نركز على السلبيات والمعايب، وننظر إليها لنصلح من شأنها، ونحن المقصودون بالكلام، وليس الكلام لغيرنا أو لأناس من غير الموجودين، إن المؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذُكَّر ذَكَر، ونحن إذا ذكرنا أنفسنا يجب أن نتذكر كلنا وأنا أولكم، ينبغي أن نحمل أنفسنا على الحق، وأن ننظر إلى العيوب التي عندنا فنشتغل بتصحيحها، وإلى الخلل فنشتغل بتسديده، ولا يصلح أبداً أن يبقى الإنسان المسلم على معصية، أو يبقى على عيب مع أنه قد وجه إليه وعرف به وهو مصر على إبقاء ما هو عليه.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.