للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهاد الهوى]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: الهوى وما أدراك ما الهوى، المفسد العظيم من مفسدات القلوب، هو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مدلوكا، ومدخل الشر مسلوكا، والهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، وأعرض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي، ولا تفسدنك دنياك بحسن العوافي، فمدة اللهو تنقطع، وعارية الله ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم وتكتسبه من الجرائم.

والهوى حجاب بين العبد وربه، فيه حطت النار، واستحق به غضب الجبار، وحرم أتباعه منازل الأبرار، ولهذا عظمت منزلة مخالفته، فلم يجعل الله للجنة طريقاً غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقاً غير اتباعه، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٣٧ - ٤١] قيل: هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها -أي المعصية- لله.

بل شرع الله له -للهوى- الجهاد، فجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجلٌ للحسن: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.

قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أعظم من جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً؛ حتى يخرج إليهم -أي: للكفار- وبدون جهاد الهوى والنفس لا يمكن الخروج إلى جهاد الكفار، فلا بد أن ينتصر عليها أولاً.

فإذا كان هذا شأن الهوى فلابد من معرفته ليحذر ومعرفة أسبابه وطرق التخلص منه، وهذا موضوع الحديث في هذه الليلة بمشيئة الله: معنى الهوى لغةً واصطلاحاً والآيات والأحاديث الواردة فيه، وموقف التشريع من الهوى، وخطر الهوى، وما يتعلق باتباع الهوى والأهواء في التشريع وفي العقائد مما يضاد التشريع ويضاد العقائد ويضاد الأحكام الفقهية أيضاً، ونتحدث كذلك عن علاج الهوى.

ولقد تحدث الشاعر عن قوم رأى معاشرهم جنحوا بـ طبيعتهم في كل تيار في اتباع الهوى وقال عنهم:

تهوى نفوسهم هوى أجسامهم تهتك بكل دناءة وصغارِ

تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى ملئ الهوان بأهله فحذارِ

فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عاري

عار: يعني ليس عليه غطاء.

قاد الهوى الفجار بل قالوا له دأبت عليه مقادة الأبرار