للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف الشريعة من الهوى]

ما هو موقف الشريعة من الهوى؟ عندما خلقت النفس في الأصل جاهلة ظالمة، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:٧٢] فلجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، وإنما هو أعظم داءٍ فيه تلفها، وتضع الداء موضع الدواء، والدواء موضع الداء، وكله بسبب الظلم والجهل والهوى فيتولد بذلك عللٌ وأمراض، كيف لو أن إنساناً داوى نفسه بشيء ٍيجلب له المرض، وداء المنية كانت هي الداءُ، كيف سيكون حاله؟ فيتولد من ذلك عللٌ وأمراض، وهي مع ذلك تبلغ نفسها وتلوم ربها عز وجل بلسان الحال، وقد تصرح باللسان ولا تقبل النصح في ظلمها فتقول النفس لله: أنت قدمت علي، وأنت كتبت، وأنت كذا وأنا بريئة، وأنا مغصوبة وأنا مجبورة مع أنها تملك الإرادة في الاختيار وفيها قوة الممانعة والمداهنة.

فهاتان الخصلتان: الظلم والجهل هما أساس كل شرٍ عند الإنسان، ولا يظن ظان أن ظلم الإنسان وجهله يكون في حق غيره بل إن أول من يتضرر بهذا هي نفسه التي بين جنبيه، والتشريع إنما جاء لإصلاح الإنسان في دنياه وآخرته ولصلاحه كذلك، وأما هواه المبني على الظلم والجهل فلا يمكن أن يحقق له سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فإذا علمت حقيقة التضاد بين الهوى والشرع، وحقيقة الظلم والجهل في النفس، وأن والهوى مركب فيها، وأن التشريع جاء لإصلاحها فمن المتوقع أن يحدث هناك تعارض بين الشرع وبين النفس، لأنك تهوى وتجهل وتظلم، والشرع يريد صلاحاً وإصلاحاً وعدلاً فمن المتوقع أن يحدث اصطدام بين الشرع والنفس، وهذا الحق والشرع واتباع الهوى نقيضان لا يجتمعان، فحيث يأتي الأمر باتباع الشرع، يأتي النهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم نجد فيه أن الأمر باتباع الشرع جاء مقروناً بالنهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم؟ وهنا تصريح باتباع الشرع وأعقبه بالنهي عن اتباع الهوى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:١٨].

والشرع يأتي مناقضاً للهوى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:٤٩] وجاء هذا التحذير للأنبياء السابقين: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:٢٦] قال الشاطبي: "حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما".

يعني: لا يوجد إلا شريعة وهوى ولا يوجد شيء ثالث، وإذا كان كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده وهو الباطل، فاتباع الهوى مضاد للحق.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في فصل تعارض العقل والنقل في الوجه السادس والستون: أخبر سبحانه أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية لا من أحكام العلم والهدى، فقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٤٩ - ٥٠] فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، فإذا رغب عن اتباع ما أنزله الله سيقع حتماً في اتباع الهوى، وإذا تعدى ما أنزل الله؛ حتماً سيقع في اتباع الهوى الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكم الله إلا حكم الجاهلين -وقد كان شيخ الإسلام يحارب في جبهة المنطق وعلم الكلام يحاربهم ويقف ضدهم فكان يقنعهم يقول يعني: غير النصوص الشرعية اتباع الهوى- فهذه الأشياء التي تخالفون إنما هي قواعد فلسفية بل هي اتباع هوى ضلال، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية -كما فعل الأشاعرة - وتحاكموا إليها، والنص إذا خالف القواطع العقلية والبراهين اليقينية يؤول ويسمى بغير اسمه.

كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد، وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقا.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في نصيحة له لعموم المسلمين قال في أولها: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يرى هذا الخطاب من المسلمين سلك الله به السبيل إلى المسلمين، وأعاذني وإياكم من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين، قال في نصيحته: وكل من أعرض عن القرآن والسنة فهو متابعٌ لهواه عاصٍ لمولاه، مستحقٌ للنقد والعقوبة كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:٥٠] وقال تعالى في نقص الكفار: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:٢٣].