للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عقيدة الطبري وردوده على الآخرين]

وأما من جهة عقيدته رحمه الله؛ فإنه كان سلفياً واضح السلفية، ويعلن مخالفته لـ أهل الاعتزال، ورد على القدرية، ورد على الروافض، وتبرأ ممن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء إلى بلد منتشر فيها سب الشيخين أبي بكر وعمر ألف كتاباً في مناقب أبي بكر الصديق، وألف كتاباً في مناقب عمر بن الخطاب، وكان سلطان البلدة يؤيد السب، ومع ذلك ألف الطبري الكتابين، فلما علم بذلك سلطان البلدة؛ أرسل بطلب ابن جرير الطبري للحبس، كيف يخالف مذهب السلطان؟ وكان هناك رجل في المجلس وقد علم أن السلطان يطلب ابن جرير ليحبسه، فذهب وأخبر الطبري، فانتهز الطبري الفرصة وخرج من البلد كما فعل موسى عليه السلام: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:٢٠ - ٢١] ولما علم السلطان بذلك الذي سرب الخبر؛ ضربه ألف سوط بسبب ذلك، وقدر الله أن يحضر هذا الشخص إلى الطبري بعد أن صار شيخاً مسناً، فأكرمه الطبري واعترف له بالفضل، وكان وفياً معه.

ومن ردوده أيضاً تأليفه لكتاب في حديث غدير خم والرد على من لمزه وضعفه، وكان رحمه الله وسطاً، لا مع النواصب ولا مع الروافض، لا هو بالذي يغلو في أهل البيت، ولا هو بالذي يعادي أهل البيت.

ومن المواقف التي حصلت له: موقفه مع طبيب نصراني ذمي: كان الطبري رحمه الله يعاني من ذات الجنب، مرض كان يعتاده يذهب ويأتي، وينقض عليه أحياناً، فيعالج نفسه منه ويتداوى، فلما علم الوزير علي بن عيسى بمرض الطبري؛ بعث له طبيباً نصرانياً ليعالجه، فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله، ما هو برنامجك اليومي؟ ماذا تفعل؟ وسبق أن ذكرنا البرنامج اليومي لـ أبي جعفر الطبري، وكيف كان وقته كله في التدريس والتصنيف والعبادة فأخبره بحاله، فعرَّفه حاله، وما استعمل لأجل العلاج وأخذه لعلته، وما انتهى إليه في يومه ذاك، فقال الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيئاً، أي قال: ما شاء الله عليك! أنت تفهم المرض وتفهم الدواء؛ لأنه -كما ذكرنا- كان حاذقاً بالطب، وعنده كتاب في الطب قد قرأه على مؤلفه، وكان يأخذ منه الوصفات والأدوية، وكان معتدلاً في طعامه، ويأكل الثمار في أوقاتها، ومع ذلك كان وقته ممتلئلاً بهذه الطاعات، فقال الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيئاً، ثم قال العبارة الخالدة: "والله لو كنت في ملتنا؛ لعددت من الحواريين الذين هم رسل المسيح عليه السلام".