للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحذير القضاة من الاستعجال في تنفيذ الأحكام]

وكذلك مما ذكر رحمه الله تعالى قال: ومن قضايا علي رضي الله عنه أنه أتي برجلٍ وجد في خربةٍ بيده سكينةٌ ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه؟ فلما ذهب به أقبل رجلٌ مسرعاً، فقال: يا قوم! لا تعجلوا ردوه إلى علي فردوه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال علي للأول: ما حملك على أنك قلت أنتَ قاتله ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين! وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقفٌ وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة فخفتُ ألا يقبل مني فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله، قال علي: بئس ما صنعت فكيف كان حديثك، كيف أدى بك الحال إلى هذا الموضع؟ قال: لأنني رجلٌ قصاب -جزار- خرجت إلى حانوتيٍ في الغلس فذبحت بقرةً وسلختها فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي، أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها فقضيت حاجتي وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي وأخذوني فقال الناس: هذا قتل هذا، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي فاعترفت بما لم أجنه، فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ قال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصفها، فاستترت منه ببعض الخربة، حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق.

فإذاً: هذا قتل شخصاً ثم انتهز فرصة خلو الجزار من الدكان فوضعه في دكان الجزار، فلما جاء الجزار بيده سكينه المعتادة وإذ بالناس قد جاءوا إلى هذا المكان وقبضوا عليه.

وكذلك قال رحمه الله تعالى: وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن امرأة وقع عليها رجلٌ في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروهٍ على نفسها، فاستغاثت برجلٍ مر عليها وفر صاحبه -الفاعل فر وهذا المستغاث به صار هو في المشهد- فمر أناس فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر وهرب، فجاءوا بهذا المستغاث به يقودونه فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقالوا: انطلقوا به فارجموه، فقال رجل: لا ترجموه وارجموني؛ جاء الفاعل واعترف فأنا الذي فعلت هذا الفعل.

ولذلك فإن القاضي عليه ألا يستعجل فإنه ربما ظهر الحق بعد مدة وأن يتأمل في الموضوع، فإنه ربما يظهر بالتأمل حالٌ جديدة، أو يظهر فيها حق ولو استعجل لأزهقت روح بريئة.

وكذلك من هذا القبيل بينما علي رضي الله عنه جالس في مجلسه إذ سمع ضجةً فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجلٌ سرق ومعه من يشهد عليه، فأمر بإحضاره فدخلوا، فشهد شاهدان عليه أنه سرق درعاً فجعل الرجل يبكي ويناشد علياً أن يتثبت في أمره، فخرج علي إلى مستمع الناس بالسوق فدعا بالشاهدين، فناشدهما الله وخوفهما فأقاما على شهادتهما، فلما رآهما لا يرجعان، فدعا بالسكين وقال: ليمسك أحدكم يده ويقطع الآخر -أنتما شاهدان عليه بالسرقة، والآن وجب تنفيذ الحد أحدكم يمسك يده والآخر يقطع- فتقدما ليقطعاه فهاج الناس واختلط بعضهم ببعض، وقام علي عن الموضع فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا، فقال علي: من يدلني على الشاهدين الكاذبين؟ فلم يقف لهما على خبر فخلى سبيل الرجل وهذا من أحسن الفراسة، فإنه ولىّ الشاهدين ما توليّا وأمرهما أن يقطعا بأيديهما يد من اتهماه بألسنتهما.

ومن هاهنا قال العلماء: إنه يبدأ الشهود بالرجم، إذا شهدوا بالزنا وأما إذا اعترف الرجل الزاني فالذي يبدأ بالرجم القاضي الذي اعترف عنده، احتياطاً بالشريعة وبأرواح العباد، وكذلك قال: وحكم الفراسة على ذلك من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، قال الله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:٢٧٣].

وأن الأخذ بالسيماء والعلامة معتمد شرعاً، قال: حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام وعليه زنار -وهذا لباس أهل الذمة من النصارى- وهو غير مختون ماذا نحكم؟ أنه نصراني، لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، بأن النصارى: كثيرٌ منهم لا يختتنون، وقال الله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:١٨].

قال عبد المنعم بن الفرس: روي أن إخوة يوسف لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقاً ولا أثر نابٍ من النياب المزعوم فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟! فلما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله تعالى بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص، ويسلم القميص ويجمعوا على أن يعقوب استدل على كذبهم بصحة القميص، فيعقوب جزم: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف:١٨] عرف ذلك من العلامات.

قال: ومن الحكم بالعلامات أيضاً: ما جاء في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:٢٦ - ٢٨].

فهذه أمارات قد حكم بها وعرف بها البريء من الظالم، وكانت دليلاً على براءة يوسف عليه السلام، والذي تكلم على الراجح هو رجلٌ كبير ذو لحية كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أما كونه صغيراً قد تكلم في المهد فلم يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي شهد شاهدٌ من أهلها رجلٌ كبيرٌ ذو لحية كان عنده عقلٌ وتمييزٌ وفراسة، فأمره بأن يعمل بهذه العلامة، وألهمه الله ذلك ليقوله فيبرئ يوسف عليه السلام.