للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك)]

قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص:٨٦].

يقول الله للنبي ممتناً عليه، مظهراً كبير إفضاله عليه: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص:٨٦].

أي: ما كنت تتمنى يوماً ولا خطر لك ببال أن يوحى إليك بالقرآن، ولا أن تكون نبياً ورسولاً، ولكن عناية الله اختارتك من بين البشر، ومن بين العرب، ومن بين قريش، ومن بني هاشم.

وبهذا فإن شرف مكة مضاعف ومكرر كالمدينة المنورة، فمنها رسول الله وفيها نزل عليه الوحي، وفيها الكعبة المشرفة وهي منزل أبيه الأعلى إسماعيل، ومدفن أبيه إسماعيل، وهي التي أعز الله بها الإسلام وأعزها بالإسلام.

وقل مثل ذلك عن المدينة - مع الخلاف الموجود في الأفضلية - وكلتاهما أشرف بلاد الله على الإطلاق، ومكة أم القرى عاصمة الدنيا، أحب من أحب وكره من كره.

فيجب على كل مسلم في الأرض أن يأتي ولو مرة في العمر ليتشرف بالدخول لهذه الديار المقدسة، فيطوف بالكعبة المشرفة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف في عرفات، ويبيت في منى.

فقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا} [القصص:٨٦] أي: وما كنت ترجو يوماً، وما كنت تطلب، وما كان يخطر لك ببال.

وكما قال الله له: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:٥٢] أي: ما كان يدري ما معنى الكتاب، فهو أمي عليه الصلاة والسلام، وما كان يدري ما الإيمان الذي نزل عليه من الله جل جلاله، وإن كان لم يسجد لصنم قط ولم يعبد وثناً قط، ولم يعجبه ما كان يجد عليه قومه قط.

وكان يصعد إلى حراء فيتعبد الله بالفكر ويقول في نفسه: هل هذه العوالم كلها صنعتها هذه الأحجار التي يسجد لها قومي؟ ويعجب من ذلك ويدعو الله ويرجوه في نفسه أن يعرفه الحقيقة، وأن يبين له الطريق السوي، إلى أن فوجئ بجبريل رسول الملائكة إلى الأنبياء والمرسلين وآخرهم نبينا عليه الصلاة والسلام.

{وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:٨٦] الاستثناء هنا منقطع، والتقدير: ولكن الله رحمك رحمة، فرحمة مفعول مطلق، أي: رحمك الرحمة الشاملة الكاملة، واختارك لهذا الكتاب ولهذه الرسالة الشاملة الخاتمة، إن فضل الله كان عليك عظيماً، ولا شك ولا ريب.

وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص:٨٦] أي: وبهذه الرحمة، وبهذا الإفضال من الله فيا محمد! لا تعن الكافرين، ولا تكن لهم ظهراً وظهيراً ومعيناً، فالعنهم وقاتلهم وذلهم فإن لم يستسلموا لك فافرض عليهم الجزية حتى يؤدوها عن يد وهم صاغرون.

ولا تتخذ منهم قريباً ولا صديقاً ولا ولياً، ومن يتول الكافرين يكن منهم، وهذا نهي لنبينا وهو في الحقيقة نهي لنا، لأن الأنبياء معصومون، فكيف بسيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام؟