للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض)]

قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يأجوج وَمأجوج مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:٩٤].

وقرئ: (سُداً)، جاءوا إلى ذي القرنين وقالوا: يا ذا القرنين وأخذوا يرجونه ويتأدبون معه أدب الرعية للرؤساء والملوك والقادة، فقالوا: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي: عطاء وأجرةً ومالاً (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي: أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج فاصلاً وحاجزاً؛ لأن يأجوج ومأجوج شعب مفسد في الأرض، فقد كانوا من الظلم والجور يأكلون الإنسان، ويأكلون كل ما وصل إلى أيديهم من أنواع الحيوانات والمواشي والدواب، وكانوا عراة يتسافدون في الشوارع تسافد الكلاب والحيوانات، إذ كانوا لا يعيشون على نظام ولا خلق ولا دين، وكانوا يأتون المياه فيغورونها ويميتون أهلها عطشاً، وإذا وجدوا أرضاً مزروعة أفسدوها وقتلوا الماشية ولم يتركوا لهم شيئاً، فقد كانوا أشبه بالتتار الذين أفسدوا يوماً في بلاد العرب والمسلمين إلى أن وصلوا حدود مصر ثم دمرهم الله وقضى عليهم.

ويأجوج ومأجوج ورد ذكرهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم قوم مفسدون في الأرض، وقد جعل عليهم سداً وحال بينهم وبين الانتشار في الأرض ذو القرنين، استجابةً لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثاً، ولكنهم سيخرجون إلى الدنيا عند زوال هذا السد، فيخرجون إلى الأرض وينتشرون، وخروجهم من العلامات الكبرى التي ستأتي بعد المهدي، فـ المهدي أولاً، ثم الدجال ثانياً، ثم عيسى ابن مريم عليه السلام ثالثاً، ثم يأجوج ومأجوج رابعاً، فيخرج يأجوج ومأجوج وعيسى في الأرض قد نزل من السماء ودان بدين الإسلام، وحج بحج المسلمين، وكسر الصليب، وقتل الخنزير، وهدم الكنائس، وألغى الجزية ولم يعد يقبل من أحد إلا الإسلام أو السيف، ودين عيسى إذ ذاك دين نبينا عليه الصلاة والسلام، فهي أوامر لعيسى من النبي عليه الصلاة والسلام، فعندما ينزل إلى الأرض يطلع عليها ويبلغها ويقوم بتنفيذها تنفيذاً لأمر نبيه محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو آخر الأنبياء ولا نبي بعده أبداً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).

وأخبرنا عليه الصلاة والسلام: (أن عيسى سينزل في آخر الزمان فيحج على غير القلص) والقلص جمع قلوص، والقلوص: الراحلة، أي: الجمل أو الناقة، وفي قوله: إنه سيحج على غير القلص إشارة للطائرات، فسيحج في الطائرات كما نحج نحن عليها اليوم، وقد تكون طائرات من نوع جديد، فنحن نرى كل يوم اختراعاً جديداً وشكلاً جديداً بحيث ما مضى عليه عشر سنوات أصبح كالدواب والمواشي بالنسبة لطائرات هذه الأيام، ويعد أيضاً من أنواع الطائرات الآن ما لا يكاد أن يتصورها أحد، وقد سبقت الإشارة لهذا في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨].

قال حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن معنى قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨] ظهور أنواع المراكب في الأرض حتى كان ذلك من جنسها، قال هذا ابن عباس منذ ألف وأربعمائة عام، وفي هذا النصف من القرن العشرين أصبحنا نستطيع أن نقول كما قال ابن عباس: والخيل والبغال والحمير والسيارة والقطار والباخرة والصاروخ، وأيضاً لا نزال نقرأ قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨] وهذا من معجزات القرآن الدالة على تصديق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

ومن هنا كان القرآن المعجزة الخالدة الدائمة المستمرة، فقد آمنا بالمعجزات التي ظهرت لنبينا حال حياته عليه الصلاة والسلام إيمان تصديق، ونحن نؤمن اليوم بالقرآن ومعجزته معنىً ولفظاً، ونؤمن إيمان شهود وإيمان حضور وكل يوم نعيش في معجزة، فالصحابة الذين آمنوا بالمعجزات التي شاهدوها آمنوا بما سيأتي إيمان تصديق، كما آمنا نحن بالمعجزات التي كانت في عصرهم إيمان تصديق، ثم نؤمن بالقرآن الكريم إيمان شهود وحضور.

قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يأجوج وَمأجوج} [الكهف:٩٤] وقرئ: (ياجوج وماجوج) {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:٩٤] أي: هل نؤجرك ونكافئك؟ ونعطيك مالاً، على أن تفعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج سوراً، فلا يدخلون أرضنا ولا ندخل أرضهم عسى أن نستريح من إفسادهم وقتلهم وسفكهم الدم الحرام وأكلهم لحوم البشر.

ولم يمكن الله ذا القرنين في الأرض إلا للإصلاح ونشر الدين والعدل وعقاب الظالم ورفع الظلم عن المظلوم، فأجابهم ذو القرنين: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:٩٥] أي: ذلك الذي مكنني، قرئ: (مكنني ومكني).

فقوله: (مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) بمعنى: ما أنا فيه من التمكين في الأرض ومن الأسباب التي أكرمني الله بها، وما ملكني الله من الحكم بين البشر وخضوع الملوك والأمراء والحكام وجميع شعوب الأرض لحكمي، هو خير من خرجكم ومن مالكم وأجرتكم، فدعوا الخرج عندكم تفرحون به أنتم لا أنا، كما قال سليمان عندما أرسلت له ملكة سبأ الهدية لتنظر رده فكان

الجواب

{ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:٣٦]، أي: أنتم الذين تفرحون بهذا المال، أما أنا فأملك من السلطان والجاه والمال ما ليس عند أحد في الأرض.

قوله: (خير) أي: أخير من أفعل، أي: أكمل وأحسن تمكيناً وقدرة.

ثم قال: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:٩٥] أي: لا تعطوني مالاً ولكن أعطوني قوة منكم، تعاونوا معي بأجسامكم وبالأدوات التي أطلبها من حديد ونحاس وأخشاب وأحجار وبنائين، قوله: (بقوة) أي: فليكن هذا منكم بعزم وصلابة وإرادة وبكل ما أطلبه منكم ولا حاجة للخرج.

ثم قال ذو القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:٩٦]، والزبر: جمع زبرة، أي: آتوني بقطع الحديد، وقيل: كانت القطعة وزنها قنطاراً اتخذها كما يتخذ الآجر والحجارة في البناء، فجاءوه بما طلب من قطع الحديد، بمعنى: صبت وقطعت، وهذا يدل على أنه كان عند ذي القرنين من المصنع والآلات ما أذاب به الحديد وقطعه قطعاً متوازية متوازنة على وزن واحد ومقاس واحد، وبعد أن جمعوا الحديد -إما أخرجه من الأرض أو أخرج ما كان موجوداً- أذابه وصنعه وجعله قطعاً.

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا} [الكهف:٩٦]، فالسدان في الوادي بين جبل يسار وجبل يمين، وذو القرنين ومن معه في الوسط، وفي جانبه يأجوج ومأجوج، وفي الجانب الآخر هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً، فقال لهم: اربطوا هذا الجبل بهذا الجبل وأبعدوا هؤلاء عنكم واجعلوا بينكم وبينهم ردماً، فردم هذه الفئة وبنى فيها سوراً بعلو هذه الجبال، فجاءوا بالحديد وبنوا الأساس، فكانوا يجعلون الحديد ثم فوقه الخشب، ثم فوقه الحديد ثم فوقه الخشب، ثم فوقه الفحم ثم فوقه الحديد، وهكذا طبقة من حديد وطبقة من خشب وطبقة من فحم إلى أن أصعده وواصل بين هذه الفئة من الجبل وهذه الفئة من الجبل حتى ساوى بين الجبلين واستوى هذا السد الذي أعلاه حتى أصبح في مستوى الجهتين، ثم قال: {انفُخُوا} [الكهف:٩٦] أي: أشعل النار، فاشتعلت النار في الفحم واشتعل الخشب فإذا بالزبر تشتعل، فصار هناك فراغ حين احترق الفحم والخشب واحتاج الأمر إلى شيء آخر يعود به ما احترق، فقوله: (حتى إذا جعله ناراً) أي: جعل السد كله قطعة نار مشتعلة فيه، (قال آتوني أفرغ عليه قطراً) والقطر: النحاس المذاب، فقد أعد النحاس وأذابه كما يذاب الثلج، ثم أخذ يقول لهم: أعينوني بقوتكم وأبدانكم، فأخذ يصب هذا النحاس المذاب على السد فامتلأ المكان الذي كان فيه الفحم والخشب بالنحاس، إذ كان من فوق ومن خلف إلى أن ملأه يميناً وشمالاً، وهكذا إلى أن أصبح السد قطعة واحدة من فولاذ اختلط بها النحاس وهذا لا يكاد يؤثر فيه إلا بإرادة الله.

قال تعالى بعد ذلك: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:٩٧].

أي: أصبح وقطعة واحدة ملساء كالبلور، فلم يستطيعوا أن يصعدوا على الحائط ويصلوا للعلو؛ لأن التراب أصبح أملس ولا يستطيع إنسان أن يمسه بيده فضلاً عن رجله، فقوله: (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي: أن يصعدوا ظهره، ويتمسكوا بجوانبه.

قال تعالى: (وما استطاعوا له نقباً) أي: ما استطاعوا خرقه لا من تحت ولا من الوسط ولا من فوق، وهكذا فإن حضارة اليوم التي يدندنون حولها لم تصل إلى هذا قط، ولم نقرأ في تاريخنا الحاضر في الآثار سوى سد ذي القرنين، فإن حصون بابل من أيام النمرود عاشت قروناً ولكنها أصبحت خراباً ولم يؤثر فيها الحديد، فأبقوا من هذه الحصون جزءاً كمتحف وأثر من آثار الأولين.