للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي)]

قال تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:٩٨].

يقول ذو القرنين وقد نفعهم بنشر الإسلام بينهم، وبزوال الظلم عنهم، ونفعهم بإبعاد هاتين الأمتين الظالمتين المفسدتين يأجوج ومأجوج، وحال بينهما وبين الوصول إلى هؤلاء وغيرهم من أهل الأرض، (قال هذا) أي: هذا الصنع الذي صنعه وبناه وكأنه قطعة من فولاذ مختلط بالنحاس المذاب (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي: نعمة رحم بها المظلومين والعاجزين، ورحم بها المستضعفين، فهي رحمة لمن عاصر ذلك، ورحمة لمن يأتي بعدهم من سلالاتهم الذين طالما عذبوا الآباء والأجداد بظلم يأجوج ومأجوج، وسفك دمائهم، وأخذ أموالهم، وانتهاك أعراضهم، وأكل لحوم صبيانهم وشبابهم.

ويصح أن يكون هذا من قول الله ويصح أن يكون من قول ذي القرنين وإن كان السياق في كونه من كلام الله أبلغ؛ لأنه خبر عن المستقبل ولا يعلم المستقبل والغيب إلا الله.

قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:٩٨] هذا الآن على شدته وصلابته إذا جاء وعد ربي جعله دكاء، أي: أصبح مستوياً مع الأرض، أو أصبح هو والأرض في مستوىً واحد، ووعد ربي لا بد كائن، والمقصود بقوله: (وعد ربي) هو ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: إن عيسى سينتصر على الدجال ويذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء، ويتم الأمر لعيسى وتصبح الدنيا في أيامه آمنة، فيزول العداء بين البشر وبين الحيوان، بحيث يتآخى الذئب مع الشاة، والحية تتآخى مع الفئران، والوحوش الضارية تتآخى مع الوحوش غير الضارية، ويصبح الناس في مستوى واحد من الغنى.

هذا ما أخبر عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام تفسيراً لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:٢٨].

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:٣٣].

آية تكررت ثلاث مرات في سور: التوبة والفتح والصف، وقد فسرها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك أبو عبد الله الحاكم وأحمد في المسند وأصحاب السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ النجم، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ الليل، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ كل شجر وحجر ومدر).

وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال الكلمة أعادها ثلاثاً، وليست هذه ألفاظ الرواة ولكنها ألفاظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقسم بالله الذي نفس محمد بيده ونفوس كل الخلق أن الدنيا لا تنتهي حتى يصبح كل ما يظهر فيه الليل أو يصعد فيه النجم مسلماً، والنجم يطلع على جميع الأرض في جميع الكرة الأرضية، والليل يكون في جميع الكرة الأرضية، وما من بيت إلا وهو حجر ومدر، هم سكان الأرض الحاضرة، وأصحاب القرى البدوية، والبدو الرحل، ومعناه: جميع سكان الأرض من ذوي الحضارة ومن البدو الرحل، يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً: (بعز عزيز أو بذل ذليل) إما أن يعزهم فيصبحون من أهله -أي: من أهل الإسلام- كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:٨] وإما أن يذلهم فيؤدوا الجزية له عن يد وهم صاغرون، وهذا يكون أيام المهدي، ويتجدد أيام عيسى، وبعد عيسى ينزل يأجوج ومأجوج فيفسدون في الأرض، فيدعو عيسى ربه بأن يهلكهم، فيصيب كل رجل منهم نغف في ظهره أو في عنقه، فيهلكون جميعاً نتيجة دعوة عيسى ربه سبحانه، فتجيف الأرض وتنجس من جيفهم وأرواحهم، فيدعو الله ليريحهم من ذلك، فيرسل الله طيراً على شكل أعناق الإبل، فيأخذونهم ويطيرون بهم إلى حيث لا يرونهم، وتنزل أمطار تنظف الأرض وتغسلها وكأنهم لم يكونوا.