للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك)]

قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨].

يقول الله لمحمد عليه الصلاة والسلام: إنك يا محمد كما تعلم أنت ويعلم قومك، ويعلم كل من رآك وعرفك، أنك قبل نزول الكتاب إليك، لم تكن تتلو شيئاً من الكتاب، فقد كنت أمياً لا تقرأ كتاباً ولا تكتبه بيمينك، فأعظم معجزة أنك لم تتعلم، ولم تجلس بين يدي شيخ، ولم تقرأ كتابا ولم تكتب بيدك شيئاً.

ومع ذلك وبعد الأربعين من السنين أصبحت محيطاً بعلم الأوائل والأواخر، علم الأنبياء وعلم الكتب السابقة، بل جئت فصححت ما كان عندهم من كذب، وتحريف، وتغيير، فعلمت علم خلق الدنيا، وخلق السموات والأرض.

وعلمت الله جل جلاله بنعوته وصفاته وبمقامه جل وعلا وأنه الخالق الواحد الذي لا شريك له، وعلمت ما كان بعلم الله لك وما سيكون، وعلمت من شأن الأمم قبلك والأمم بعدك ما علمكه الله بما أنزل إليك من هذا الكتاب الكريم، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:٤٢].

هذا الكتاب المعجز في لفظه، والمعجز في معناه، جئت به وأنت الأمي، كما يقول العارف: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فيكفي معجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام أنه وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب جاء بعلم لم يأت به أحد قبله: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وكل ذلك قد صادق خبره الخبر، سواء فيما مضى أو فيما هو آت.

فقد جاءكم بكتاب فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، والفصل فيما بينكم، هو الجد ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، فيه الحق الصراح في الخبر والنبأ والحكم، والعقائد والقصص والآداب والرقائق.

قوله: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨].

أي: لو كان النبي يكتب ويقرأ لقال أهل الباطل من أهل الشرك ومن يهود ونصارى: لا غرابة فيما جاء به محمد، فهو قد قرأ كما يقرأ الناس، وكتب كما يكتب الناس، وحضر مجالس العلماء، فهو يقرأ ويكتب.

ولكن لما كان الأمر ليس كذلك كانت المعجزة مما ظهر في عقول العقلاء قبل غيرهم، وكانت أعظم معجزة أتى بها هي القرآن، فلم يأت من قبله إلا بمعجزة قد انتهى زمانها، كعصا موسى وناقة صالح وما إلى ذلك، ولكن المعجزة الدائمة الباقية ما بقيت الدنيا هي هذا الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فأعظم المعجزات التي كانت والباقية إلى يوم القيامة هي هذا الكتاب الذي تحدى الله الخلق جنهم وإنسهم أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، أو بعشر آيات منه، فعجزوا وما استطاعوا.

والتحدي لا يزال قائماً منذ ألف وأربعمائة عام، فلم يستطع أحد أن يجاري القرآن في فصاحته وبلاغته وإعجازه، لا القريب من اللغة العربية، ولا البعيد عنها.

قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت:٤٨].

أي: لم تكن تتلو كتاباً وتقرؤه من قبل القرآن الكريم المنزل إليك.

{وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:٤٨].

أي: ولم تكن تكتب بيمينك، وذكر اليمين هنا هو في الأغلب وإلا فبعض الشواذ يكتب باليسار، والمقصود أن النبي لم يكن يكتب قط.

والخط باليمين هنا المراد به الكتابة، بمعنى أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكونه لا يقرأ ولا يكتب هو ما جاء ذكره في القرآن الكريم، وجاء في التوراة والإنجيل قبل ذلك، وأجمع عليه المسلمون قاطبة، حتى لقد قالوا: من زعم أن محمداً يقرأ ويكتب فهو كافر بالله، إما أن يتوب إلى الله وإما أن يقتل على الردة.

وقد زعم أبو الوليد الباجي من علماء الأندلس في القرن الخامس أن النبي عليه الصلاة السلام كان يقرأ ويكتب، وقال هذا الكلام وهذا الهراء وهذا الجهل على جلالته وعلمه ومكانته بين المفسرين والمحدثين والعلماء والفقهاء.

وقد أخذ ذلك من كلمة ذكرت في صحيح البخاري، وذلك عندما اتفق النبي صلى الله عليه وسلم مع خصومه وأعدائه من كفار مكة أن يكتبوا معاهدة الحديبية، وكان الكاتب للرسالة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له النبي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، وإذا بسفير قريش يقول: اكتب: باسمك اللهم كما كان يكتب سلفك وقومك، ثم قالوا له: اكتب اسمك واسم أبيك كما يكتب الناس، ولو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، وكان علي قد كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فغيرها باسمك اللهم، فقال له النبي: امح رسول الله واكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله، فامتنع علي وقال: والله يا رسول الله لن أمحو رسالتك لا في قول ولا في عمل.

في رواية عند البخاري: فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم وكتب: محمد بن عبد الله، وفي الرواية الثانية في البخاري: فأمر رسول الله غير علي بأن يمحوها ويكتب اسمه واسم أبيه، فجاء الباجي فقال: قد كتب رسول الله: محمد بن عبد الله، فنسب الكتابة للنبي، وقال: كانت تلك معجزة لرسول الله.

وهذا فهم أعوج لأمرين: أولاً: أن المعجزات لا تتضارب، فالمعجزة كانت في كونه أمياً، لا في كونه قارئاً، فلو اعتبرنا المعجزة انقلبت من أمي إلى قارئ وكاتب لكان هناك تضارب، والمعجزات لا تتضارب.

ثانياً: أنه لو كان يكتب لدخل في عموم الآية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨].

إذاً: لو كان يقرأ ويكتب لتشكك وارتاب في صدق رسالته ونبوءته المبطلون البعداء عن الحق من أهل مكة وغيرهم من الوثنيين ومن الكتابيين، ولذلك قامت ضجة على هذا الرجل في المشارق والمغارب، وخطب الناس على المنابر في تكفيره وفي شتمه، وقال بقوله اثنان أو ثلاثة، وذكروا حديثاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى تعلم القراءة والكتابة).

وهذا حديث باطل لا أصل له ولا سند له، ولا مخرج له، وهو من الأكاذيب التي كذبها الزنادقة أو الجهلة، وفي هذه النتائج دائماً يلتقي الجهلة مع الزنادقة.

وعلى ذلك فالقرآن صرح هنا بأنه لم يكن يقرأ كتاباً، ولم يكن يكتب كتاباً قبل نزول القرآن عليه.

وهو بذلك عندما جاءه الوحي بلغ الرسالة، ونشر علوم الأولين والآخرين، ونطق بما جاء به القرآن عن الله، وكان له أكثر من عشرين كاتباً يكتبون الوحي عندما ينزل عليه، ويكتبون الرسائل بينه وبين أمراء الأقاليم والملوك يدعوهم إلى الله الواحد الذي لا شريك له.

أما أنه يكتب ويقرأ فالقرآن صريح في عدم ذلك، وقد وصفة الله في التوراة والإنجيل من قبل أنه أمي، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:١٥٧].

وجاءت صفة رسول الله في التوراة والإنجيل كما يقول الله: إنه النبي الأمي، والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ومع أميته وصفه القرآن بأنه رسول ونبي، وأنه جاء ليأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، وينهاهم عن الخبائث، ويرفع عنهم إصرهم، أي: ما كان في دينهم مما لا تكاد تحتمله الناس من شدة وقسوة في عبادتهم.

والأغلال التي كانت عليهم: كانوا عبيداً للملوك مستذلين، قويهم يأكل ضعيفهم، وغنيهم يستبيح مال فقيرهم، إلى أن جاء النبي عليه الصلاة السلام، فرفع هذا من الكون كله، ورفع الظلم الذي كان في ديار العرب، وأمر برفعه من ديار الروم والفرس، فامتثل أمره الخلفاء الراشدون عندما ذهبوا فاتحين في أقطار الأرض، ناشرين رسالته وأمره ونهيه صلى الله عليه وسلم.