للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)]

قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:٩].

يكشف الله جل جلاله عن هؤلاء الذين يعاصروننا ممن لم يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، والسورة تسمى سورة الروم.

والقضية متعلقة بالروم وهم سكان أوروبا وسكان أمريكا بعد ذلك، فهؤلاء الروم النصارى وصفهم الله بأنهم لا يعلمون، وإذا علموا فعلمهم سخيف تافه ليس إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وأما الباطن من الدنيا فلا يعلمونه، فهم لا يعلمون أسرار هذا الكون سماء وأرضاً، بشراً وخلقاً، طيراً وجناً، وحيوانات ودواب، وهم وإن كانوا يرون ذلك ويمرون عليه، فإن مرورهم مرور الغافلين.

أما من أين أتينا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير بعد الموت؟ فهذا مما غفلوا ويغفلون عنه، فهم لا يعلمون ظاهره ولا باطنه، ولا يعلمون اسمه ولا حقيقته.

ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الذين لا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم:٩] أي: لماذا لم يسيروا بأنفسهم سائحين ومنتقلين ومتعلمين، ومطلعين عن أحوال تلك الأمم السابقة والشعوب البائدة، وأنها حين كفرت بالله وكذبت رسله ولم تؤمن بما أنزل الله من كتب من السماء دمروا ولم تبق إلا خرائبهم ودورهم التي لم تعمر إلا قليلاً، وأهلكهم الله نتيجة كفرهم، ونتيجة إبائهم الإيمان والإسلام والعلم بما يجب أن يكون عليه الإنسان الذي خلقه الله في الأرض، وأن الله ما خلقه إلا لعبادته، ولا تكون العبادة إلا بالعلم.

وما العلم إلا علوم الآخرة وعلوم الدنيا التي تكون موصلة للآخرة نعلم منها أسرارها وبواطنها، كما أن العلوم الأخرى قد تكون علوماً موصلة للأخرى إذا قصد بها الله والدار الآخرة، وإذا علم منها ومن حقيقتها ومن باطنها أنها من الله، وأنها لخدمة عباد الله، فإن تكلمنا عن الطب مثلاً وقلنا: إن الله الخالق لهذه الجوارح وأن الطبيب ليس بيده خلق قطعة قد زالت، ولكن بيده الترقيع، فهذا لا بأس به، وقل نفس ذلك عن المهندس: إنه لا يعلم إلا خطوط البناء والعلو وما يحتاج إلى عمق الأرض، وقل مثل ذلك عن الصيادلة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما خلق الله داء وإلا وخلق له دواء إلا السام).

ففي كل عشبة من هذه الأعشاب، وفي كل نبتة من هذه النباتات التي خلقها الله بقدرته دواء من أدواء أمراض الناس، علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم الله ينذر هؤلاء الكفرة ويأمرهم أن يأخذوا الحقائق وما يمكن أن يستفيدوا منه، وذلك بالضرب في الأرض، فينظروا عواقب من مضى من الأمم والخلق كيف كانت نتائج كفرهم، كانت خراباً ودماراً، ولم تبق إلا خرائبهم لتدل عليهم، وإلا البوم والغراب ينعق في خرائبهم، وهم بين يدي الله يحاسبون على الشاذة والفاذة بسبب خلافهم وكفرهم.

والاستفهام في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم:٩] جوابه المقدر: هو أنهم كانوا كفرة، فكانت العاقبة دمارهم وخرابهم واندثارهم وبوارهم.

ثم أخبر الله عن أولئك الماضين فقال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:٩]، أي: كانوا أكثر قوة في أبدانهم، وأطول أعماراً في سنيهم، وأكثر ذكاء في أعمالهم وصنائعهم، وأكثر شدة في بأسهم وسلطانهم، وتغلبوا على الشعوب من أمثالهم، واستطاعوا التصرف في الأرض والحضارات، وأثاروا الأرض وعمروها وزرعوها وحرثوها واستنبتوها، وغرسوا فيها الأشجار والبساتين والرياض، وشقوا فيها الأنهر والغدران، وصنعوا على البحار الموانئ التي يستطيعون الوقوف بالبواخر والبوارج والسفن عليها.

فقوله: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ} [الروم:٩] أي: استخرجوا معادنها وخيراتها وذهبها وفضتها، وما فيها من ثروات وكنوز، كل ذلك عملوه بقوتهم وبذكائهم، فكان لهم من القصور ما لا نزال نرى آثاره إلى اليوم، فهذه أهرامات مصر شاهدة على ذلك، وقد مضى عليها الآلاف من السنين، والصخرة الواحدة من هذه الأهرامات تزن الآلاف من الأطنان، فكيف قطعت من جبال سيناء وجبال الطور؟ وكيف قطعت على هذا الشكل؟ وعلى أي الآلات حملت؟ وكيف رفعت بعد ذلك على هذه البنية؟!! وكذلك قل عن آثار بابل في أرض العراق، وقد أراد هارون الرشيد يوماً أن يبني قصوراً في مكانها، فقال له وزراؤه من البرامكة: يا أمير المؤمنين! هي خرائب لا تخرب ولا يؤثر فيها الحديد والفولاذ، قد تهدمها سنوات ولم تهدم، ويصعب علينا أن يقال: بنى الأولون ما عجزنا عن تخريبه، والخراب أيسر من البناء.

فلم يلتفت الرشيد إلى كلامهم وأمر بهدم ذلك، وبعد سنتين من الهدم والتخريب لم يكادوا يخربون إلا جزءاً لا يتجاوز الأمتار من الجدران، فاضطر لأن يترك ذلك، وهو إلى الآن لا يزال كذلك، أما كيف بنوه، ومن أي مادة صنعوه؟ فلا نعلم حقيقة ذلك، فتلك من الآثار التي يشير إليها القرآن الكريم.

وينبغي أن يعلم هؤلاء المعجبون بأنفسهم وبقوتهم وبحضاراتهم أن من مضى من الأمم كانوا أكثر منهم وأشد قوة، ومع ذلك قد بادوا وذهبوا واضمحلوا.

وقوله: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:٩] أي: زرعوها وغرسوها ونبشوا عن المعادن واستفادوا منها، وبنوا على الصخور الآثار والقصور الرفيعة والمدن والقرى.

فهم صنعوا كل ذلك مما جعل المعاصرين يعجبون من ذلك ويعجزون أن يصنعوا مثل ذلك أو ما يقاربه.

وقوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم:٩] فهؤلاء مع شدتهم وقوتهم وحضارتهم ومدائنهم وسلطانهم عندما جاءتهم الرسل بالبينات وبالدلائل الواضحات على صدق رسالتهم غفلوا وتغافلوا أو كذبوا، فكانوا لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وإنما جاءهم أنبياؤهم المرسلون إليهم ليعلموهم وليرشدوهم ويعطوهم من بواطن الدنيا كما علموا من ظواهرها، ومن علوم الآخرة التي جهلوها، لكنهم أبوا إلا الجحود والكفران والمخالفة والعصيان.

وإذا بالله الكريم يعاقبهم في الدنيا والآخرة، وكان عذاب الآخرة أشد وأنكى، أما عذاب الدنيا فقد ظهر جلياً بما تركوا من آثار وخرائب تدل على ما أصابهم من غرق وصعق وقلب الأرض عاليها سافلها، وصيحات وزلازل وصواعق من الأرض والسماء لا تزال آثارها في مختلف بقاع الأرض.

قال تعالى: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:٩]، أي: لا يليق بعدل الله وجلاله أن يظلم أحداً، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦].

وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وهؤلاء ظلموا أنفسهم بكفرهم وبكونهم لم يصدقوا أنبياءهم وما جاءوا به من رسالات وكتب، فكانوا ظالمين لأنفسهم بما أصابها من لعنة وخراب ودمار.