للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر)]

قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].

يقول ربنا جل جلاله: الفساد لم يبق خفياً أو مضمراً أو بين الإنسان وبين نفسه، بل تكاثر وظهر في البر والبحر.

والآية بينة لا تحتاج إلى بيان، ومع ذلك اختلفوا في معناها خلافاً طويلاً لا معنى له، فقالوا: ظهر الفساد في البر: نزل القحط والجدب فلم تعد الأرض تعطي من خيراتها ومعادنها وأرزاقها.

وقالوا: البر: الصحاري والفيافي، والبحر: المدن والقرى المشرفة على البحار، أي: الموانئ والمرافئ، وتركوا البحر مع أن الله ذكر البحر، ولم يذكر شاطئاً ولا مرفأ، والشاطئ هو: المدينة نفسها، وهي البر، فكلمة البر شملت الشواطئ والجبال والصحاري والأرض الخصبة والجدبة سواء، وكل ما يطلق عليه بر، وذلك ظاهر لا يحتاج بيان، وليس هو من عصرنا والعصور الماضية فقط، بل هو من أيام آدم عليه السلام، عندما قتل قابيل هابيل وأزهق حياته ظلماً وعدواناً وحسداً؛ لأن الله قبل من هابيل ولم يقبل من قابيل، فهو عندما قتل أخاه من أبيه وأمه ظلماً وعدواناً وحسداً من نفسه كان قد ظهر فساده ولم يبق سراً، وبقي أخوه مقتولاً على الأرض إلى أن جاف وانبعثت منه الروائح الكريهة حتى بعث الله غراباً يبحث في الأرض؛ ليري ذلك الظالم كيف يواري أخاه ويدفنه.

فمنذ ذلك الوقت ظهر الفساد في البر، ثم توالى بعد ذلك إلى أن جاء نوح وبقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بينهم بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة أخرى، وكان قد بعث وهو ابن خمس وأربعين عاماً، فعاش بينهم نحواً من ألف وخمسمائة عام.

وانتشر الفساد بينهم وطال وامتد إلى أن استحقوا بجرائمهم أن يفيض الله عليهم البحار فتغمرهم وتقتلهم غرقاً، وما ذلك إلا لظهور الفساد.

وقد قص الله علينا قصص عاد وثمود وقوم لوط وقوم إبراهيم وقوم موسى وهارون وفرق بني إسرائيل مع جميع أنبيائهم، وفي كل ذلك كان الفساد ظاهراً واضحاً يراه القريب والبعيد، ويراه الصغير والكبير، ويراه من يعلم ومن لا يعلم، وقد ظهر الفساد في البحر، فالبحار فيها السفن التي تقطع الشواطئ والقارات مشارق ومغارب، وقد حكى الله لنا في ذلك قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح الذي قيل عنه: نبي، وقيل عنه: ولي، وذلك عندما خرق السفينة فاستنكر ذلك موسى عليه السلام وقال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:٧١]، وبعد أن غضب ولم يصبر وحكم على نفسه إن سأله بعد ذلك فلا يعود إلى مصاحبته وقد فعل، أخذ يحكي له حكم ما صنع، فقال عن هذه السفينة: إنه كان في البحر ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فإذاً: كان الغصب واللصوصية وقتل الأرواح في البحر، وكان هذا منذ العهد الساحق، ثم تطاول ذلك وامتد، وهو في عصرنا أكثر مما كان في عصر نوح.

والله عز وجل وعد نبينا صلى الله عليه وسلم بأن لا يهلك أمته بما كان يهلك به الأمم السابقة من الغرق والمسخ والصرع والزلازل والصواعق، على الرغم من أن الأرض قد استحقت ذلك منذ زمن سحيق؛ لكثرة ما عليها في براريها وأقطارها وبحارها من الظلم والفساد، ومنه فساد الشرك بالله وفساد إزهاق الأرواح ظلماً وعدواناً وفساد أكل أموال الناس بالباطل وفساد تكبر الجبابرة والطغاة على عباد الله المؤمنين من أكل أموالهم وسفك دمائهم وقتل شبابهم واستحياء نسائهم، إلى غير ذلك من أنواع الفساد من كل شر.

وهو في البحر كما هو في البر، فمن الفساد في البحر أنه عندما يركب الناس في هذه السفن الماخرة ويقطعون البحار مشارق ومغارب فإنهم في البواخر وعلى ظهر البحار يمارسون أنواعاً من الفساد، فتجد السفن ممتلئة بالخمور والحشيش والزنا وكل أنواع الباطل، وفي الأجواء كذلك فإنهم وهم في الطائرات يشربون الخمور ويأكلون الحشيش ويظلمون ويعتدون ويفعلون من المنكرات ما الله به عليم.

فالله يفسد عليهم دنياهم وأجواءها وبراريها وبحارها ومشارقها ومغاربها، حتى إن الإنسان لا يكاد يجد رقعة في الأرض فيها عدل وحكم للشريعة ودين يرجع إليه ويستكين له، وما ذلك إلا عقوبة للخلق؛ ليعاقبوا ببعض الذي عملوا، ومع ذلك فإن فيها فئة صالحة لم تنقرض ولن تنته ما دامت الدنيا، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم وهم على ذلك إلى قيام الساعة).

والطائفة أفراد، وقد تكون جماعة متكتلة باسم دولة، وقد تكون جماعة متفرقة باسم أفراد وجماعات أحدهم في المشرق والآخر في المغرب، ولكنهم على كل حال حجج الله في الأرض على أن الحق قائم، وأن حجة الله دائمة، وبأن كلام الله يتلى على البر والفاجر؛ لتبقى حجة الله البالغة يوم القيامة، ولا يدعي أحد عندما يسأل في القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ أنه لا يعلم ولم يسمع بدينه ولا برسوله ولا بكتابه؛ لأنه يكون قد سمعه سواء كان في المشرق أو في المغرب وفي أي مكان من أرض الله من برار وبحار وأجواء.

والباء في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ} [الروم:٤١] للسببية.

وقوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:٤١].

أي: لينزل بهم بعض أعمالهم وليس كل أعمالهم من ظلم وكفر وشرك، مثل عذاب الله لقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، فإن الله تعالى لم يعاقبهم إلا ببعض أعمالهم لا بها كلها، وهذا العذاب إنما هو في الحقيقة نقمة لمن يفهم عن الله.

قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].

أي: يفعل ذلك بالناس لعلهم يوماً يتفكرون ويقولون: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ومن الغافر والراحم والمتجاوز عن سيئات عبيده وخلقه غيره سبحانه، وهذه فيها التهديد والوعيد لعلهم ينتبهون ويتيقظون ويعودون عما هم فيه، فهي لطمات ولكمات إلهية للناس؛ لعلهم يعودون إلى الله ويقولون: ربنا اغفر لنا وتب علينا، إننا إليك راجعون وإليك منيبون، ولكن مع كل ذلك طالت الجرائم وطال الكفر والفساد، ولا يزيدهم الله عذاباً وامتحاناً إلا وزادوا كفراً وفسقاً وعصياناً، فعندما كنا مستعمرين للنصارى في مشارق الأرض ومغاربها بكى من بكى وتضرع من تضرع وجاهد من جاهد، فإذا بالله الكريم يستجيب لدعوة داع وصلاح صالح؛ رحمة منه.

ثم بعد أن استقلينا من عدونا وملكنا المال والسلاح والجيوش والدول وغير ذلك وعدنا القهقرى إلى أقبح ما كنا أيام الاستعمار كفراً وشركاً بالله ونشراً للمنكرات بكل أنواعها من زناً وفساد وحكم بغير ما أنزل الله، وتركنا كتاب الله وراء ظهورنا، وعدنا لأحكام الكفار وقوانينهم وأخلاقهم ولغاتهم، وكل ما كنا نفعله قهراً في وجودهم أصبحنا نفعله عن ارتياح وبهجة وسرور، وظننا أننا قد تحضرنا وارتقينا وتجددنا وأصبحنا كذا وكذا بعد أن لعب بنا الشيطان وسخر منا، فأصبحنا عبيداً له.

ثم كان البلاء الأخير استعمار ألعن الأمم وأذلها، وهو استعمار اليهود، يقتلون من يقتلون، ويستبيحون أعراض من يستبيحون، ويهدمون البيوت على ساكنيها، ويدوسون المسلمين بسياراتهم ودباباتهم، والعالم كله معهم يصفق لهم ويساعدهم حتى العرب، أفليس هذا ذلاً وهواناً وعقوبة سماوية جعلها الله على أيدينا مكراً بنا وعقوبة لنا؟ والقرآن الكريم ما ترك شيئاً يعود علينا نفعه إلا ولفت أنظارنا إليه ونبهنا عليه، وما من شيء يضرنا في حاضرنا ومستقبلنا إلا وبينه لنا وكشف لنا حقائقه، ولكننا نعيش بأذان صماء وبقلوب غلف، مثل عيشة البهائم أو أقبح وأذل.

وفي قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:٤١].

أي: بسبب كسب الناس وبسبب جرائمهم، والكلام صريح ولا يحتاج إلى بيان أكثر من هذا البيان، أي: بسبب ظلم الناس وفجورهم وفسقهم وكفرهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قادهم إلى العز ألف عام متصلة متوالية، فلما تركوا قيادته وإمامته وذهبوا يجرون خلف كل يهودي ونصراني ومنافق، بدل الله حالهم إلى غفلة وضياع وزيغ وضلال، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! اللهم لا تعاملنا بما فعل السفهاء منا، اللهم أعدنا إليك، اللهم وعليك بكل ظالم زائغ، أنهه واقض عليه، واسلبه حياته وأخلده في النار.

إذاً: فقوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].

أي: ليصيبهم ببعض ذنوبهم، وببعض الذي فعلوه من المعاصي، لا نقمة منهم، ولكن لعلهم يرجعون إلى الله، فعندما لم يرجعوا بالبيان وبالبلاغ وبدعوة الرسل والعلماء فليأتوا قهراً بتسلسل العذاب والآلام والمصائب والفتن من الأرض والسماء ومن كل جهة من جهات الأرض ومن كل البشر من يهود ونصارى ومنافقين، بل ومسلمين كذلك، و (لعل) في القرآن للتحقيق.