للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى)]

قال تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:٥٢].

أي: يا محمد! هؤلاء موتى فحياتهم لم يستفيدوا منها، وأسماعهم لم يسمعوا بها، وأعينهم لم يبصروا بها، وقلوبهم لم يفقهوا بها فكانوا أمواتاً، ولو أنهم على شكل أحياء.

والميت لا يسمع ولا يفهم، وعلى ذلك فأنت لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء، أي: النداء، إذا ناديت ودعوت لم يسمعوك، ولم يستجيبوا لك؛ لأن لهم قلوباً لا يفقهون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وأعيناً لا يبصرون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل.

والأنعام تستفيد من بطنها حملاً ومن ظهرها ركوباً ورحلة، ومن ضرعها حليباً.

وأما هذا الميت فيضيق على الحي من الناس بطعامه ولباسه وسكنه وقد لا يكتفي بذلك، فيؤذي الناس الصالحين الأخيار، فموته خير من حياته، وأصلح للبشر من وجوده.

وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:٥٢] الموتى جمع ميت.

فقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:٥٢] أي: إذا دعوت الموتى لم يسمعوك، والصم جمع أصم، وإذا دعوتهم فلم يسمعوك.

فقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:٥٢] الصم يتفاهمون بالإشارة، والأصم إذا ولى لا يرى إشارتك ولا يسمع نداءك، فهو في ضياع وخراب، وهو في إعراض عن الحق وعن سماعه البتة.

ولذلك كان الكفار إذا سمعوا رسول الله يتلو القرآن ويدعوهم إليه، يدعو بعضهم بعضاً ويقولون: الغوا فيه ولا تسمعوا إليه.

فكان البعض يغلق آذانه عن السماع، والبعض يصيح ويفر كما يفر الشيطان إذا سمع الأذان وله ضراط حتى لا يسمع الله أكبر، ولا يسمع الشهادتين.

وكون الميت لا يسمع هذا الشأن المعروف، ولكن مع ذلك فإن سماع الميت قد ثبت بالتواتر، ففي غزوة بدر بعد أن هلك من هلك من الكفار والأعداء، تركهم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام على التراب إلى أن جيفوا، ثم أمر بقذفهم في القليب وهو بئر، ثم وقف على شفير البئر فنادى: (يا أمية بن خلف، يا عتبة بن أمية، يا عمرو بن هشام، وإذا بـ عمر يقول له: يا رسول الله! أتدعو أقواماً قد جيفوا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يستطيعون الجواب، وأخذ يقول لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ أما نحن فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً).

والحديث اشتهر بحديث عبد الله بن عمر عن عمر، ولكن عائشة رضوان الله عليها الشابة العالمة كانت تحاول أن تجتهد في كل شيء حتى في الرواية المسموعة، فهي ترد على الكثير من الصحابة، فقد ردت على عبد الله بن عمر وقالت: لم يقل رسول الله: لستم بأسمع منهم، وإنما قال: هم الآن يعلمون ما أوعدوا به.

وهذا الذي قالته ليس بصحيح، فلم يرو هذا الحديث عبد الله بن عمر فقط، فقد رواه الكثير من الصحابة، فقد سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً، فكلهم سمعوا قوله، إذ كان يرفع صوته في مخاطبتهم، والأحاديث بذلك في الصحاح والسنن وفي جميع أمهات السنة وغير ذلك.

وعندما نسلم على رسول الله فإننا نقول: السلام عليك، إذ نخاطبه بكاف الخطاب، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم عندما نزور الموتى أن نقول لهم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، رحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، وأسأل الله العافية لي ولكم).

وهذا الخطاب لكل ميت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى، فقد تواترت الأحاديث بأن الميت يسمعنا ولكنه لا يجيبنا، لأن الشبح الذي سيجيب قد فني وصار إلى التراب.

أما الروح فباقية، وقد ثبت بالتواتر أن الأرواح تسر بسرور أهلها في دار الدنيا، وتتألم بألمهم في دار الدنيا، وترد السلام على المسلم عليها، ومن ذلك: تلقين الميت عندما ندفنه ونقول له: يا فلان ابن فلان، إذا سألك الملكان: من ربك؟ فقل: الله.

ومن نبيك؟ فقل: محمد رسول الله.

وهذا التلقين كذلك ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الميت لا يسمع فما الفائدة من التلقين ولكن الآية معناها أنهم موتى في الحياة لم يموتوا بعد، وموتهم في الحياة أنهم عطلوا أسماعهم وأبصارهم وأعينهم، عطلوا حواسهم عن السمع والرؤية والفقه، فكانوا كالموتى الذي كان الشأن فيهم ألا يسمعوا ولا يعقلوا ولا يروا.

فروح كل ميت تسمع وتجيب، واختص النبي عليه الصلاة والسلام بأن كلف الله له ملكاً يرد السلام على من مسلم عليه.

ويستحب استحباباً مؤكداً وخاصة يوم الجمعة أن نكثر الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه عشراً.

فمعنى قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:٥٢] أي: لا تسمع الدعاء الموتى والصم.

وقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:٥٢] أي: لا تسمع الدعاء إذا قد أدبروا، فلا يرون إشارة وبالتالي لا يفهمونها لأنهم لم يروها.